موجهات العمارة السعودية بين القيود والإبداع

مقال رأي

بقلم: فرحات الطاشكندي

 

  1. مقدمة

في السنوات الأخيرة، شهدت الساحة السعودية دعوات متكررة إلى الالتزام بما يسمى موجهات العمارة السعودية. وعلى الرغم من حسن النوايا، إلا أن الممارسة أظهرت أن هذه الموجهات قد تتحول إلى قيد يضيق واسعا بدل أن تكون مصدر إلهام وابتكار.

 

  1. العمارة التقليدية: نتاج ظروفها

العمارة التقليدية في أي بلد – بما في ذلك السعودية – لم تكن نتيجة قرار ثقافي مسبق، بل هي نتاج طبيعي لمواد البناء المتاحة، والتقنيات الممكنة، وظروف المناخ والبيئة، والاحتياجات الاجتماعية آنذاك. ما بُني بالطين والجص والخشب في الماضي كان هو المتاح، وليس خيارًا جماليًا مقصودًا بذاته.

 

  1. المواد المحلية وتطور الصناعة

كانت هوية العمارة المحلية في السابق نتاجًا لاستخدام المواد المتاحة والمحدودة في ذلك الزمان، والتي فرضت أسلوب بناء يعكس بيئةً قاسية وإمكانات تقنية متواضعة. أما اليوم، فقد تطورت المواد الداخلة في العمارة بفضل استثمارات الدولة في صناعة البناء، مما أدى إلى: إنتاج العديد من المواد المصنعة محليًا. خلق مواد بناء جديدة صارت تعتبر مواد محلية معاصرة. وكما كان الأجداد يبحثون عن حلول تناسب أوضاعهم وبيئتهم وتحدياتهم، فربما لم تحقق تلك الحلول كل الاحتياجات، لكنها كانت ثمرة تفكير إبداعي في مواجهة الظروف المتاحة. ولذلك ينبغي أن يكون تعاملنا اليوم من خلال تحقيق عمارة تواكب احتياجات المواطن المعاصر، وتستخدم بذكاء ما وفرته الدولة من مواد بناء حديثة محلية الصنع وبأيدٍ ورؤوس أموال سعودية.

هذا النهج يدعم: تنشيط الاقتصاد المحلي. تنويع مصادر الدخل غير البترولي. تحقيق مستهدفات رؤية 2030 عبر استدامة اقتصادية وتقنية.

 

  1. المملكة اليوم: استثمارات وإمكانات حديثة

اليوم في المملكة: وفرت الدولة استثمارات هائلة في قطاع البناء والمواد. التقنيات المعمارية المتقدمة صارت متاحة. هناك وعي عالٍ بمفاهيم الاستدامة، الذكاء الصناعي، الطاقة المتجددة. إذن، ليس من المنطقي إلزام المعماريين بقوالب ماضوية تشكلت في سياق مادي مختلف كليًا.

 

  1. المباني الحديثة ووظائفها الجديدة

هناك مبانٍ ووظائف معمارية لم تكن موجودة أصلًا في التاريخ المعماري المحلي: المستشفيات الحديثة التي تتطلب حلولًا هندسية متقدمة في التهوية والتعقيم والبنية التحتية. قاعات الاجتماعات الكبرى: تتطلب بحورًا واسعة من الإنشاءات لا تقوى عليها التقنيات التقليدية. ناطحات السحاب ومراكز التكنولوجيا: لا يمكن تخيلها بالوسائل الإنشائية القديمة. فرض قالب شكلي مستوحى من الماضي على مثل هذه المباني هو ضرب من السطحية المعمارية.

 

  1. تجربة الموجهات في المنطقة المركزية بالمدينة المنورة

في تجربة لم يُكتب لها النجاح لتطبيق الموجهات المعمارية في المنطقة المركزية بالمدينة المنورة، تم اعتماد توجه فرض المشربيات، الرواشين، والنوافذ الضيقة على الواجهات المطلة على الحرم النبوي الشريف. لكن النتيجة جاءت مخالفة للغاية المرجوة: حُجبت الرؤية البصرية على الحرم النبوي الشريف، وهو نقطة الجذب الأولى ومتعة الزوار والحجاج. هذه العناصر – رغم قيمتها التقليدية – فقدت معناها في سياق المباني المرتفعة الحديثة، فأصبحت مجرد زخارف تحجب ولا تعبر.

وقد أدرك الأمير عبدالمجيد بن عبدالعزيز – أمير منطقة المدينة المنورة آنذاك – إخفاق هذه التجربة، فاتخذ قرارًا حكيمًا بـ: إلغاء تلك الموجهات المعمارية. فتح المجال أمام تطور العمارة دون قيود شكلية. كما قال النبي ﷺ: «لقد حجرت واسعًا يا أخا العرب». وبهذا الموقف تم رد الاعتبار للعمارة كفن تطوري مرتبط باحتياجات الناس وجماليات العصر، بدل أن تكون حبيسة قوالب ماضوية.

 

  1. النوافذ والبلكونات وأزمة كوفيد

كذلك من الأمثلة التي تكشف قصور بعض الموجهات فرض النوافذ الصغيرة أو ذات الأشكال الثابتة والمحددة كمثلثات، في وقت أصبح من الضروري: الاستمتاع بالفراغات الخارجية عبر نوافذ واسعة تطل على الحدائق الداخلية والخارجية. الاستفادة من الإضاءة والتهوية الطبيعية.

لقد علمتنا أزمة كوفيد أهمية البلكونات والفتحات الواسعة، خصوصًا لسكان الشقق التي تفتقر للحدائق، بخلاف الفلل التي تحوي ساحات.

كان من الأفضل أن تركز الموجهات على الممنوعات وما يُخالف القيم، لا أن تفرض قوالب محددة في التصميم، وتترك مساحة للإبداع المعماري الذي يحقق راحة الساكن واحتياجاته بدلاً من إرضاء منظري الهوية بشروطهم الضيقة.

 

  1. الاستدامة: بين الجوهر والتسويق

أصبح مصطلح الاستدامة اليوم في كثير من الخطابات والمشاريع وسيلة تسويقية أكثر منه ممارسة حقيقية: الكثير من المشاريع تدعي الاستدامة لكنها تستهلك موارد هائلة في الإنشاء والتشغيل. يتم إرفاق بعض الحلول كالألواح الشمسية أو العزل الحراري ثم يقال إن المشروع مستدام، بينما يغيب الجوهر.

الاستدامة الحقيقية لا تكون بشعارات تسويقية، بل في: ترشيد استخدام الموارد الطبيعية. الاعتماد على مواد محلية منخفضة الانبعاثات. تخطيط حضري يقلل من الحاجة إلى المواصلات الكثيفة. تكامل البعد الاجتماعي في التخطيط بما يحافظ على الروابط المجتمعية.

الاستدامة ليست مجرد علامة تجارية، بل فلسفة في التخطيط والتصميم والإدارة تستشرف المستقبل وتحفظ حق الأجيال القادمة.

 

  1. المطلوب: استلهام لا استنساخ

الحل ليس في رفض الهوية، بل في: استلهام المبادئ الثقافية والجمالية للعمارة المحلية. دمجها مع التقنيات الحديثة وحلول الاستدامة. تطوير أشكال معمارية جديدة تليق بعصرنا وتستجيب لحاجات الناس الحقيقية. الهوية الحقيقية في العمارة ليست إعادة إنتاج الماضي، بل التعبير عن روح المجتمع المعاصر بجذوره وتطلعاته معًا.

 

  1. خاتمة

المعماريون السعوديون أمام تحدٍ حقيقي:  إما أن يُعيدوا تشكيل الماضي في قوالب إسمنتية. أو أن يُبدعوا عمارة سعودية حديثة تعكس قوة الحاضر وطموح المستقبل.

الاختيار واضح… التقدم لا العودة.

 

 

تاريخ الاضافة : Fri 18 Jul 2025 عدد المشاهدات : 16 مشاهده

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*

code

أسئلة؟ دعنا نتحدث
دعم العملاء
تحتاج مساعدة؟ دردش معنا على الواتس اب