د. وليد أحمد السيد
لا تزال المدينة تحمل بين ثناياها غموضا تبثه على الزوار والمرتادين والقاطنين على حد سواء, وهو ما يشكل جوهر الترحال والسفر للبحث في كنه التنوع الهائل في “طبائع المدن” وكينونتها, وحياتها, والحركة الدؤوبة, غير المنقطعة, المتجددة زمنيا, والتي تدور في طرقاتها وفضاءاتها العامة والحاصة. وبدون شك فما زالت المدينة تحتل موقع الصدارة في العلوم الحضرية والإنسانية وعلوم الإجتماع والجغرافيا, فضلا عن التصميم والتخطيط الخضري. فهي بمثابة “كائنات” لها حياة وتاريخ وتموت بعد دورة طالت أم قصرت. وقد شكلت دراسات المدينة على الدوام محورا مهما مرتبطا بالجنس البشري نظرا للإرتباط اللصيق بينهما, إذ يصوغ كلاهما الآخر في “دورة” تبادلية. وبالرغم من الدراسات المضنية المتلاحقة غير المنقطعة في مجال “المدينة”, إلا أنها – أي المدينة – لا تزال لغزا غامضا أبعد من أن تحيط به دراسة جزئية بتخصص واحد. ومن هنا فلم يعد خافيا أن النصوص التي تبحث في المدن المعاصرة باتت متعددة الإختصاصات في مباحثها, بل إن بعضها بات يركز على البعد الإجتماعي في تحليل محور المدينة ودور الفكر الإجتماعي المعاصر في بناء المدن الحديثة. فمثلا كتاب (The City) الصادر حديثا قبل عام يقدم تحليلا مبتكرا حول المدينة كمفهوم مركزي في الفكر الاجتماعي المعاصر. فهو يشرع في قراءة وتحليل الطرق المثيرة للجدل والتي من خلالها يتم بناء المدن، والطرق التي يتم فهم المدن خلالها, وكيف يتم تصورها بالإضافة إلى حياتها. ويختبر مواضيع متعددة ونهجا يعتمد على مجموعة من النقاط النظرية والمنهجية والتجريبية، ويختبر طروحات مثيرة للإهتمام في مجال المحتوى البيئي للمدن مثل عدم المساواة الحضرية والمساحات العامة، فضلا عن طرق مفاهيم مثل المدن الإبداعية، والعولمة، والاقتصاد، والضواحي، والذاكرة والعاطفة, ومكانها من صوغ المدينة بإطارها المعنوي والمادي على حد سواء.
وفي موقع محوري يعتمد الكتاب علم الاجتماع في توجهه، لمعالجة بعض المناهح في علم الاجتماع الحضري وأيضا الدراسات الحضرية التي تسهم على نطاق أوسع التخصصات في فهم المدينة المعاصرة. وينطلق من فرضيات إن معظم التصورات الثاقبة هي التي تجاوز الانقسامات الجامدة والثنائيات، مثل “الغرب وباقي العالم ‘،’ العالمية والمحلية، و’الريفية والحضرية’، ويسعى إلى تقديم رؤى مختلفة بعض الشيء في المناطق الحضرية متنوعة التعقيد. وضمن هذا الإطار يعتمد الكتاب المناقشات والأفكار، ونتائج بحوث تصورات للمدينة في مختلف السياقات الوطنية والمحلية، واللحظات التاريخية والسياسية.
ومن المثير أن القراءة في مثل هذه الكتب عن المدينة لا تقوم فقط على إعادة تقدير للمدينة وإبراز مجموعة من وجهات النظر، بعضها يثير الدهشة، ولكنها يتتبع المفاهيم والمواضيع المؤثرة بطريقة موجزة ومؤطرة بشكل واضح, ومزيج من الأصالة والتوليف في متناول العديد من التخصصات على اختلاف مرجعيات البحث في مجالات متعددة, إذ يمثل إضافة في علوم الاجتماع والجغرافيا والدراسات الحضرية والعلوم الاجتماعية الأوسع والعلوم الإنسانية.
ومن المهم التأكيد على العلاقة المهمة بين المدينة والحياة الحضرية بشكل كلي، بما في ذلك تأثير التوجهات الفكرية العالمية على بنيوية وحياة المدينة كعوامل حسية ومعنوية منها الأفكار، والأشخاص، والسلع، والممارسات والعلاقات بينها, استنادا إلى افتراض أن المدينة في ذاتها نظرية ومادية وخبرة عملية. كل من هذه العوامل هو قائم بذاتة ويمكن قراءته بمعزل عن غيره، ولكن الروابط المهمة في النص بين المواضيع والمناقشات تظل محل جدل ونقاش من أجل تطوير الأطروحات المختلفة – وهي مهمة الكثير من الباحثين وعلماء الإجتماع وسواهم في تأطير وتأصيل الحوار المتبادل عبر التخصصات والبحوث في البيئات الحسية والمعنوية. مثل هذه الطروحات لا تقدم “قائمة التسوق” من النظريات الحضرية أو تاريخ الفكر الحضرية. بدلا من ذلك، فهي عمل يشترك في تقديمه منهجيات متعددة للدخول لموضوع المدينة وفكرتها الاساسية من خلال اتخاذ نهج موضوعي يقدم بالتالي الإهتمامات الأساسية في تطوير وإعادة إنتاج المفاهيم المتعلقة بالمدينة.
المدينة الرشيقة
أحد الجوانب البيئية المهمة التي تتصدر مشهد وبحوث المدينة تتمثل في النقاش المحتدم حول ظاهرة الاحتباس الحراري، حيث تطرح مسألة ترشيد استهلاك الطاقة بشكل متفاوت تقريبا, كأمر يجب عمله لكنه ذي فائدة هامشية. فهناك تسارعات وتطورات غير مسبوقة وتغييرات على صعيدي المجتمع والمباني يمكن أن تصل لأهداف الحد من الكربون بسرعة، وربما أسرع بكثير وبتكلفة أقل مما يظهر الاقتصاد في مسألة ربط إفراز الكربون مع مجموعة من ضرائب الكربون أو الأمل بأن تقنيات سحرية يمكن أن تنقدنا أو تجنبنا المشكلات التي تؤثر علينا وتزعجنا. فالتكيف مع المستقبل, بقدر ما هو أمر متعلق بتغيير المواقف الجامدة ودراسة الافتراضات الأساسية فهو في نفس الوقت أمر متعلق بالتكنولوجيا والسياسات. فكرة المدينة الرشيقة تساعدنا في التعرف على التغيرات التي تجعل الآثار كبيرة بتكاليف منخفضة. إذ أنه من الحكمة البدء في التفكير وإعادة البحث في الأنماط الاعتيادية التنموية، والنظم الرقابية الجامدة، والحوافز المطلقة التي بنيت في السياسة الضريبية. وهذه يمكن أن يكون إصلاحها محبطا: فهناك معارك سياسية يجب خوضها، فضلا عن الحاجة إلى توجيه البيروقراطية الجامدة في اتجاهات جديدة، وإيجاد طرق جديدة في التعاون مع أولئك “الكلاسيكيين” الذين تعودوا على حراسة القديم. ولكن التكاليف الحقيقية لهذه الأنواع من التغييرات هي في الواقع قليلة وفوائدها كبيرة.
وعلى عكس تقنيات الطاقة البديلة ذات التكنولوجيا الفائقة، يمكن اليوم البحث في الحد من الانبعاثات والتكيف مع آثار تغير المناخ. وقد يكون من الواجب أن نلجأ في النهاية إلى التكنولوجيا المتفوقة البديلة والطاقة النووية والوقود الحيوي، وكل تدبير من تدابير الحفاظ، كما يقول العديد من الخبراء. وفي الوقت ذاته يبدو أن المدن العالمية باتت فعلا مترابطة المصير, في المستقبل على الأقل إن لم يكن في تاريخها الماضي, فمسألة الإحتباس الحراري وانبعاث الكربون بات القاسم المشترك الذي يتطلب عملا مشتركا بعيدا عن الأنانية. فبعض الباحثين في هذا الإطار يرى أنه لا يهم ما يفعله الأميركيون إذا لم تتخذ دول كبيرة تعمل على بث الكربون في الجو ، مثل الصين، خطوات لخفض كبير في الكربون التي تصب في الغلاف الجوي. وفي هذا الصدد تطرح بعض الأسئلة الأساسية: لماذا لا يجب علينا استغلال الإمكانات الغنية للحفاظ في أسرع وقت ممكن؟ ولماذا ينبغي للبلدان الأخرى اتخاذ إجراءات في حالة عدم وجود التزام جاد من قبل الولايات المتحدة؟
وإذن فالتحديات التي تواجهها المدينة اليوم هي عالمية، لكن طروحات بعض الباحثين في المدينة باتت تركز في المقام الأول على الولايات المتحدة, والدول الصناعية الكبرى التي تهدد البيئة الطبيعية العالمية وشكل وطبيعة مدينة الحاضر والمستقبل, وتدعو إلى تحمل مسؤولية مستقبل المجتمع الإنساني من خلال فهم العمليات التي تجعل المجتمعات ديناميكية وقابلة للتكيف. فمعظم الآليات التي تحرك التنمية وتصميم المباني هي اختراعات مصطنعة من الحكومة والتمويل، وفريدة من نوعها لأمريكا، إن لم تكن نناسب بشكل خاص ما أصبحت عليه أمريكا. لدرجة أن هناك هدفا للمدن، ليس بالضرورة معيشيا، حيث أنها يمكن ان تستمر بسيطة ذات منهجية واحدة تناسب كل أساليب صناعة المدينة, والتي ليست رشيقة ولا متكيفة جدا. وبرغم أن طروحات مفهوم المدينة الرشيقة تركز بشكل كبير على تغير المناخ، إلا أنها تستجلب مفاهيم شبكة الإجراءات التطورية المشتركة البشرية التي يمكنها بشكل ممنهج استعادة النظم الطبيعية الملازمة للصحة وللتكيف.
التخطيط والتعددية في المدينة
وعلى مستوى آخر متعلق بالمدينة فلقد اصبح التخطيط الحضري والإقليمي, كنظرية وممارسة, أكثر وعيا في الآونة الأخيرة بضرورة تلبية مجموعة متنوعة من الاحتياجات والقواعد الناظمة كأفضليات. ولكن هناك وضوح أقل حول ماهية الأهداف والغايات التي يجب أن تشكل الخلفية المعلوماتية لعمليات التخطيط لمثل هذا التنوع. وبمعرض تقديم إطار معياري لممارسة التخطيط، تبرز مجموعة من قواعد ‘المنطق الاجتماعي” لجهود التخطيط المحلية التي تستجيب لأنواع مختلفة من التنوع، والتي قد تساعد المخططين لتطوير بعض ” القواعد الأساسية” التي يمكن أن توجه أفعالهم. قواعد المنطق الاجتماعية الثلاث هي إعادة توزيع، و”التعرف على” أو تمييز، والتقابل. كل مبدأ هو موضوع لطروحات مهمة وأساسية. فالأول يشرح المبادئ والقواعد, والثاني يعرض ويعقد مقارنة للجهود المبذولة لتشكيل المدن، بالإعتماد على الأمثلة ذات العلاقة من جميع أنحاء العالم، والثالث يتم من خلاله التفاعل مع الأفراد والتخطيط له من أجل تقديم فرص لزيادة السلوك الاجتماعي.
ومهمة المفكر النقدي حول التخطيط الحضري، في جزء منها، هي التمييز بين الأشكال المرغوبة وغير المرغوبة لمبادئ التنوع والتجانس. وقد استمر هذا الجدل ليكون وثيق الصلة لطريقة تفكيرنا حول التخطيط في مدن التعددية الثقافية والإثنية. في الأربعين عاما منذ وقوع الهجمات الأولى على افتراضات وممارسات التخطيط للتنوع والتعددية داخل المدن وسكانها, أصبح ذلك موضوعا رئيسا مثيرا للقلق بالنسبة للتخطيط كفكر نظري وممارسة عملية، وللنظرية الحضرية بشكل عام. وحتى الآن، وبالنظر لتاريخ الوسائل اتي تم من خلالها التأطير النظري لمسائل التعددية والتنوع داخل المدن في الكثير من المناقشات والسجالات والأطروحات الفكرية, تلاحظ “لوريتا ليس” أن التنوع في مسائل التعدد ذاتها هي نفسها تعاني من قلة التنظير والإلتفات على المستوى النظري.
وإذا كان التخطيط هو لصياغة المدن أكثر عدلا في سياق التنوع، فإن هذا لا يمكن أن يكون مجرد مسألة ‘استيعاب’ أو ‘تبني’ لمفهوم وثقافة التنوع على هذا النحو. بل بدلا من ذلك، هو مسألة الفصل بين أنواع مختلفة من التنوع التي تميز الحياة في المدينة والتمييز بين تلك الأشكال من التنوع والتي تتميز بالعدالة الإجتماعية وبين وتلك التي هي غير عادلة، من أجل تعزيز ما سيشار له من خلال هذا الكتاب باسم “التعددية العادلة’. إن نظرية التخطيط من أجل التعدد والتنوع في المدينة, هو مقدمة مثالية للقضايا التي تحيط التنوع والتخطيط الحضري والإقليمي, إذ يوفر خط فكريا جديدا متقدما من أجل تقليل مبادئ عدم المساواة في المدينة والعمل من أجل “العدالة التعددية” في المدن.
الأحداث والتجديد الحضري
وفي ذات السياق في الحضرية والمدن, تحتل الأحداث, الدائمة والموسمية والمتنقلة, مكانة مهمة في استكشاف العلاقة بين الأحداث وتجديدها وبين تطور البيئة المبنية داخل المدن. فالأحداث والتجديد؛ يمكن بحثها كظواهر منفصلة، فضلا عن ضرورة مناقشة العلاقة بين الأحداث والسياسات. ويمكن تبين ذلك من خلال تحليل مجموعة من المدن ومجموعة من مشاريع الأنشطة الرياضية والثقافية. والأحداث تقسم إلى، رئيسة عامة شعبية، والمناسبات التي تجري في أوقات معينة, والتي تختلف عن المناسبات اليومية أو تلك التي يتم الإعلان عنها على الملأ. وهناك الأحداث الكبرى التي تجري في المدينة، في الأحداث الترفيهية الخاصة التي لا ترتبط في مكان واحد معين. وعلى مستوى أوسع هناك عدد كبير من الأحداث الكبرى التي تستضيفها المدن وغالبا ما تغير الشكل الفيزيائي البيئي للمدينة، ويشار إليها بالأحداث الحرة، أو الأحداث المتجولة في الأدب, والأحداث الطليقة كمحطات مرحلية في حياة المدن مثل الألعاب الأولمبية، والأحداث المتجولة داخل المدن، مثل التنس وكرة القدم أو الغولف, والتي هي السمة المميزة لنوعية يمكن وصفها بأنها عكس الأحداث، أو هي الأحداث التي ترتبط مع مواقع لا تطغى على المواقع المضيفة داخل المدن.
هذا الطرح المبتكر في الدراسات الحضرية والتخطيطية يختبر مجموعة من الرؤى النظرية المختلفة لتوفير نظرة لتفسير الأحداث الكبرى المهمة في المدن المعاصرة. إذ يفحص الطرق المختلفة التي يمكن أن تساعد الأحداث والتجديد الحضري، فضلا عن المشاكل والقضايا المرتبطة بهذا النموذج غير التقليدي للسياسة العامة وتخطيط المدينة. كما يحدد القضايا الرئيسة باستخدام الأحداث لمساعدة التجديد الحضري ويقترح كيف يمكن تحسين الممارسات في المستقبل. وهذا المنهج يستكشف هذه العلاقة ليس لتبرير استخدام الأحداث كأدوات التجديد, بل لتحديد وتقييم الطرق المختلفة التي استخدمت سياسة تجديد الأحداث داخل المدن. وكما يبدو فالمدن حريصة على نحو متزايد لربط الأحداث بأهداف التجديد الحضري، وذلك كهدف فرعي لاقتراح كيف أن المنظمين وأصحاب المصلحة الآخرين يمكنهم تحسين نتائج تجديد استراتيجيات الحدث. وغايتهم لاستخدام تحليل هذه الممارسة المتخصصة تعزيز فهم التجديد الحضري عموما.
الوطن العمانية, الأحد 22 سبتمبر 2013
المقال على صيغة ملف بي دي اف ..
اترك تعليقاً