د. خالد السلطاني
تمثل اطروحات الفيلسوف الفرنسي ” جاك دريدا ” ( 1930-2004 ) Jacques Derrida منطلقا نظريا لمفهوم ” التفكيكية ” Deconstruction كما انها تمثل مرجعية فكرية لها . وهذه الاطروحات الفلسفية مهتمة في الاشتغال على نقد استعارة ومجازية جميع اشكال الوعى الاوربي المعاصر ، الوعي الذي حصر نفسه ، وفقا لرؤى الفيلسوف الفرنسي ، في تمجيد مقولة ” بان الكينونة او الوجود يكمن في الحضور ” تلك المقولة التى رفعت من شأنها المناهج الفلسفية الاوربية واوصلتها حد الاطلاق والتمامية . ويرى ” دريدا ” بان الخروج من هذه الاشكالية الميتافيزيقية التى وجد نفسه الفكرالفلسفي وتحديدا الاوربي ، هو في محاولة الكشف عن مرجعياتها التاريخية من خلال القيام بتجزئة تحليلية لنصوص الثقافة الادبية المختلفة ، اي بمعنى آخر ” تفكيكها ” من اجل كشف المعاني الاساسية وطبقات الاستعارة Metaphor والتى تم بواسطتها ترسيخ اثار العصور اللاحقة . وبهذا المعنى فانه يستخدم اسلوبه الخاص لقراءة المنجز الادبي ، عندما ينشأ بصورة واعية اصطدام او خلاف بين ” معنى ” النص وامكانية ” تأويل ” ذلك النص .
ورغم ان المجال الرئيسي الذى تتعاطى معه اطروحة الفيلسوف الفرنسي هو المجال الفلسفي جنبا الى جنب الاشتغال على موضوع ” اللغة ” و” الكتابة ” ؛ ( يسمي ” دريدا ” علم الكتابة بـ “غراموتولوجيا ” ) ؛ فانه يوظف نظريته في مجالات عديدة اخرى مثل الفنون التشكيلية والعمارة . وقد تكرس مصطلح ” العمارة التفكيكية ” في نهاية ثمانينات القرن الماضي ، كتعبير رمزي ونظري في آن عن وصف مجمل تجارب تصميمية ترسخت في الممارسة المعمارية العالمية وقتذاك واكتست منطلقات حلولها التكوينية باجواء الذائقة الفلسفية التى روّج لها الفيلسوف الفرنسي . وبحسب توصيف منظر التفكيكية فان الاخيرة ليس ” طرازا ” معماريا ، وانما هي ” وسيلة ” لدى المصممين ، بها يمكن الدنو من اسس اساسيات المبنى ، مقترب ما للعمارة كونها نوعا من انواع الفنون . ويضيف ” دريدا ” بان التفكيكية ليست بالضرورة تقويض المباني المبنية ، وانما خلق ” تضارب ” بين ما بات امرا عاديا ومالوفا لدى المرء في ادراك اللغة والمعنى ، وبين ما يراه او يشاهده .
والتفكيكية المعمارية ، في هذا المعنى ، ووفقا الى ” دريدا ” فانها بمثابة سؤال المعماريين لانفسهم : هل بمقدور العمارة ان تتخلى عن هيمنة ” اقانيم ” Hypostasis علم الجمال ” الاستيتيقا ” الكلاسيكي ، هل بامكانها ان تتنصل عن النفعية ، عن الوظيفية ، وهل ثمة مفاهيم راسخة تحدد النظام ، وتشير ايضا الى عدم النظام الى التشويش مثلا ؛ وهل بالامكان تشييد مبنى بالتخلي عن تلك المبادئ الاساسية المتعارف عليها والمألوفة لخلق عمارة ، بضمنها مبادئ : التكتونية ، التوازن ، الخطوط الافقية والعمودية ؛ ام ان ثمة عمارة اخرى تنشد بالضرورة تهشيم القيم القديمة من اجل ابداع شيئا ما جديد . وفي اعتقاده بان الاجابة عن مثل تلك التساؤلات يتعين اولا التخلص عن المفاهيم القديمة ، ويتعين لزوم خلق اشكال جديدة ، وفضاءات جديدة ، انواع جديدة من المباني ، والتى فيها تبدو تلك الموتيفات ” مكتوبة ” مجددا ، لكنها الان تبدو فاقدة لهيمنتها الاولى . فعملية الخلق اي خلق تعني فيما تعنيه وطبقا ً لرؤياه ” القول ” نعم ” ؛ وليس ” لا ” ! .
لقد اثار انتباه الاوساط المعمارية في حينها تعليق ” جاك دريدا ” على فوز ” برنارد جومي ” في المسابقة الدولية لتخطيط وتصميم حديقة ” بارك لا فيليت “( 1982 ) Parc de la Villette في الدائرة 19 بباريس في فرنسا . تلك الحديقة الفسيحة التى قدرت مساحتها بحوالي 25 هكتارا ، والتى عدت من اوسع حدائق او بالاحرى ” باركات ” العاصمة الفرنسية . تضمن المشروع تصميم منشاءات عامة مكرسة الى الانشطة العلمية والموسيقية فضلا على وجود اعداد كبيرة من ” الفولي ” Folly ، وهي : اجنحة معدنية مبنية بارتفاع طابق الى طابقين ، ليست لها وظيفة نفعية وتم تلوينها بصبغات صارخة ، وتستدعي فورماتها وتكويناتها الى الذاكرة اشكال النسق الطليعي ” الافانغاردوي” الروسي بالعشرينات . لقد اشار ” دريدا ” في تعليقه ” بان ” الفولي ” تكرس الاحساس بالازاحة او التحول في صميم التكوين العام ، ساحبة في هذة العملية كل ما كان يدرك بانه اساس العمارة ومعناها …. كما ان ” الفولي ” تسعى الى تفكيك كل دلالات Semantics العمارة ؛ انها ( اي الفولي ) تنزع الى عدم استقرار المعني ولاثبوتيته . هل يؤدي ذلك الى التراجع القهقرى ، الارتداد الى الوراء : نحو مقترب صحراء ” اللاعمارة ” او ما يعرف بمفهوم ” ضد العمارة ” ؟ ، وهل ان الاقتراب من تخوم درجة الصفرفي” لغة ” العمارة ، تفقد الاخيرة ذاتها ، هالتها الجمالية ، اساسها ، اوتراتبية مبادئها ؟ لا ، بكل تأكيد ! ، ذلك لان ” الفولي ” … تسعى وراء تثبيت ، واسناد ، وتجديد و” اعادة كتابة ” .. العمارة ، ومن الجائز انها تنعش الطاقة التى تم تجميدها ، وتواريها ، وغلقها ، ودفنها في قبر جماعي يدعى .. الحنين الماضوي او ما يعرف ” بالنوستالجيا ” !! … ” .
والى جانب ” الفولي ” المبثوثة في فضاءات الحديقة الباريسية ، والتى اتسمت لغتها التصميمية على حضور نكهة العمارة التفكيكية ، فان ما تم بناءه لاحقا من مبانٍ في ذات الموقع الحدائقي كان ايضا مجبولا بحضور سمات تلك العمارة وقيمها . اذ صمم المعمار الفرنسي ( المغربي المولد : فقد ولد في الدار البيضاء بالمغرب عام 1944 ) ” كريستيان دي بورتزامبارك ” مجمعه المسمى ” مدينة الموسيقى ” ( 1984-90 ) / المرحلة الاولى ،المتضمنة مباني الاكاديمية الوطنية للموسيقى والرقص وملحقاتها التى بلغت مساحاتها الاجمالية حوالي 40 الف متر مربع تستوعب 1500 شخصا ً من طلبة الاكاديمية . وقد تم توقيع مباني المجمع بين فضاءات حدائقية مكشوفة وبين اشكال انسيابية لمسطحات مائية تعكس سطوحها اشكال مبانيها ذات اللغة المعمارية المعبرة والفريدة في آن . يعترف ” بورتزامبارك ” بان الاشتغال على ثيمة التصميم كان دائما يقوده نحو مشروعه الاول : بيت في بريتانيا ، حيث ان كل غرفة فيه تماثل الى حد كبير بيتا صغيرا مستقلا ؛ ويكشف المصمم في اعتراف واضح بان” كل مشروع جديد هو في نهاية الامر ما هو الا خلاصة التصاميم السابقة و ” زبدتها ” ؛ كما ان اي عمل جديد ينبغي ان يمت بصلة ما الى .. ايحاء سابق ” .
وايا يكن الامر فنحن ازاء تصميم مترع بالاجواء” التفكيكية ” سواء كان ذلك لجهة تسقيط الكتل ام لناحية لغته التصميمية . وتبدو السقيفة التى تنهي بلوك المدرسة المتكون من ستة طوابق بشكلها المتموج الملتوي ، وكأنها قطعة ” منسلخة ” عن كتلة المبنى الاساسية و” محلقة ” فوق حيّز زجاجي شفاف يملء المجال المحصور الذي تشغله الجدران الخارجية الجسيمة في الاسفل وبين السقيفة الطائرة في الاعلى . وتبدو لغة المبنى المعمارية صادمة لكل ما كان يعتبر امرا ً” ثابتا ً ” ومبدأً مألوفا ، بدءا من استخدام فيض الالوان الناصعة الزاخرة بها اقسام مباني المجمع الى اشكال النوافذ ذات الفتحات المتباينة في اطوالها واشكالها الى كتل المبنى نفسه ذات الهيئات الهندسية المشوشة ً . ويحرص المصمم الى اشعارنا بقوة حضور الموسيقى : وظيفة المجمع الاساسية ، من خلال توظيف الاشكال الانسيابية الملتوية والمائلة والمشطوفة والتأكيد على استخدام حيوية التعارض بين الفضاء والكتلة بنظام يشي الى الاحساس ” باللانظام ” ، الذي يطيب لرائد التفكيكية : ” دريدا ” تذكيرنا به دوما . وعلى العموم فان كتل مجمع ” مدينة الموسيقى ” ما برحت تؤكد عبر حالة ” حضور ” كتلها ذات الفورمات المعبرة وغير المألوفة والمصبوغة بالوان ناصعة عن .. مفهوم ” الغياب ” ودلالاته الرمزية ، تلك الحالة التى يعتبر وجودها من اساسيات العمارة التفكيكية .
وتكرر عمارة ” انفو – بوكس ” Info-Box ببرلين ، مفهوم عمارة ” الفولي ” الذي بدء التعاطي معها تصميما ، غب ظهور منشاءات بارك ” لا فيليت ” الشهيرة بضواحي باريس في منتصف الثمانينات . وهذا المنشأ الذي صممه مكتب ” شنايدر+ شوماخر ” Schneider + Schumacher الالماني عام 1994 اثر مشاركتهم ( وفوزهم لاحقا ) في مسابقة معمارية لتصميم حيز معماري يشتمل على فضاءات عرض ومشاهدة للنشاط البنائي الضخم ، الجاري يومذاك على ساحة ” بوتسدام ” ببرلين : كعاصمة موحدة لعموم المانيا . وقد حدد برنامج المسابقة وجوب ازالة المبنى لاحقا طبقا لاشتراطات اعادة تخطيط المنطقة اياها . وقد ازيل المنشأ فعلا في يناير من عام 2001 . ورغم “تفكيكه ” بالمعنى الاجرائي للكلمة وزواله نهائيا من الموقع ، فان الخطاب المعماري النقدي ما فتئ يذكرنا بدور عمارته في تكريس المنهج التفكيكي الجديد واهميتها في الممارسة المعمارية العالمية .
لم يستغرق تشييد ” انفو- بوكس ” سوى ثلاثة اشهرمن عام 1995 ، كانت كافية لان يظهر باطلالته المميزة ولغه عمارته الاستثنائية . ثمة ” بلوك ” هندسي بابعاد 62.5 مترا طولا و 15 مترا عرضا وبارتفاع كلي يصل الى 23 مترا مصبوغ بالاحمر ومرفوع عن الارض ؛ هو كل ما يتضمنه ” الانفو –بوكس ” : صندوق المعلومات والاستعلامات عن ما كان يثير الاوساط المعمارية من مبانٍ اتسمت عمارتها بلغة حداثية او بالاحرى ما بعد حداثية ، اطلت فجأة على الساحة البرلينية الهادئة سابقا .
يستثمر مصمم المبنى / الفولي ، جميع عناصره الانشائية والتكوينية من اجل اشعارنا بقوة حضور نهجه المختار : نهج التفكيكية . فالاعمدة الرافعة للمنشأ عن مستوى الارض تظهر بصيغ ثلاثية الاذرع ، ليست قطعا بباعث الحصول على متانة اضافية ، بقدر ما تشي الى تكريس المظهر التكتوني المشوش و تعزيز لا نظامية المنظومة الانشائية . ثمة سلم حديدى يصل الى منسوب الطابق الاول الذي قدر ارتفاعه عن مستوى الارض بثمانية امتار ، ان مهمته لا تقتصر على تيسير الوصول الى فضاءات المبنى المعلقة ، وانما وجوده ايضا ً يؤدي الى زيادة ” ضجيج ” العناصر المزدحمة الغاص بها ذلك الفراغ الفاصل ، كما ان سلما اخرا موقع خارج الكتلة الهندسية الاساسية اريد لهيئته ” الزكزاكية ” ان تثري تعبيريا واجهات : الصنوق ” المستوية المصبوغة باللون الاحمر القاني . ووفقا” لتراث ” التفكيكية فقد استبدلت احدى زاويا الجدارالمعدني الخارجي الركنية بفتحة غطيت بالزجاج ، في حين حفرت شرفة مكشوفة بالواجهة الطولية الاخرى ، مخصصة لمعاينة موقع البناء . ولم يتأخر المصمم في ارباك و ” كركبة ” تصوراتنا العادية والاخلال بها عن طريق شق شريط بعرض حوالى المتر ، في ” انترير ” المبنى يفصل الجدار الخارجي عن سقيفة المبنى .
ولئن اشتغل كثر من المصممين في الاونة الاخيرة على مقاربة العمارة التفكيكية ، فان بعضهم اهتم ايضا في الاشتغال على مقاربات تصميمة اخرى ، مقاربات شملت مناهج تصميمية مختلفة عن التفكيكية واحيانا بالضد منها ، ما برحت عمارة ما بعد الحداثة ” تولدها ” الواحدة بعد الاخرى ! . لكن نتاج ” بيتر ايزنمان ” وبغلاف العددين ظل دائما وفيا ًللتفكيكية ووثيق الارتباط بها ، واضحى ، كما اشرنا ، فيما بعد احد ممثلي هذا التيار التصميمي المميزيّن في المشهد المعماري العالمي .
في كثير من الاحيان ، عد ّ نتاج ” ايزنمان ” بمثابة تجسيد معماري مباشر لمذهب التفكيكية الفلسفي ، ولم يشعر يوما ” ايزنمان ” بالحرج من هكذا وصف ، وانما كان يشهر اخلاصه للتفكيكية بصورة واضحة لا لبس فيها في العديد من المقابلات التى كانت تجري معه ، وفي كثير من المقالات التى كتبها . وحتى الكتب التي الفها كانت حافلة باجواء انتمائياته للتفكيكية ؛ على عكس المصممين الاخرين الذين نأوا بانفسهم عن التصنيفات الجاهزة بقوالب معينة وبمناهج تصميمية محددة .
ثمة مشاريع عديدة صممها ” بيتر ايزنمان ” في الثمانينات والتسعينات ،متواجدة الان في مناطق جغرافية متنوعة ، منها على سبيل المثال بالاضافة الى دراساته حول ” البيت السكني ” الذي ذكرناه توا ، محطة اطفاء حريق ( 1983-85 ) في نيويورك / امريكا ، مركز ” وكسنير ” Wexner للفنون البصرية (1983-89 ) في اوهايو / امريكا ، مشروع ” بيوسنتروم ” Biocentrum ( 1987 ) في فرانكفورت / المانيا ، مشروع دارة ” غوارديولا ” Guardiola ( 1988 ) في قادس / اسبانيا ، ومبنى مقر شركة ” نونوتاني Nunotani ( 1990-92 ) في طوكيو / اليابان ، ومشروع مبنى ” ماكس رينهاردت ” M. Reinhardt ( 1992 ) في برلين / المانيا ، وكذلك مشروع متحف ” دو كاي برانلي ” Du Quai Branly ( 1999 ) في باريس / فرنسا وغير ذلك من المشاريع المنفذة وغير المنفذة يوحدها جميعا قراءة ايزنمان المعمارية الخاصة للتفكيكية ؛ انها علامات بارزة في منجز هذه المقاربة كما انها مشاريع اعتبرت وفق رؤى كثر من النقاد المتابعين لعمارة ما بعد الحداثة احداث على درجة عالية من الاهمية في السجل المبنى لتلك العمارة عموما . ومن اجل رؤية وتتبع تماثلات الفكر التفكيكي وتحولاته الى كتل بنائية ملموسة ذات لغة معمارية معبرة ، فاننا سنتوقف سريعا عند عمارة ” المبنى السكني ” المعروف بمبنى IBA الواقع في وسط برلين بالعاصمة الالمانية .
يتألف المبنى الذي صممه ايزنمان في 1981 وانتهى تنفيذه سنة 1985 من كتلة ذات ثمانية طوابق ، ويقع عند تقاطع ” فردريك شتراسه ” غير بعيد عن مكان ” جدار برلين ” المهدم ، المكان الذي سيراعي المعمار خصوصيته عند اشتغاله على الفكرة التصميمية . والمبنى كتلة ركنية على تقاطع شارعين تميل الى اللون الاخضر الفاتح ، وتنطوي على سمات مميزة خاصة بالعمارة التفكيكية مثل السطح المستوي واشكال فتحات النوافذ المربعة الواسعة ، كما حفلت معالجاتها التكوينية بذات الخصائص اللصيقة بالمقاربة المثيرة مثل ” تشذيب ” وقص زوايا المبنى والحضور القوي للون والتلاعب الكتلوي واضفاء مناسيب متباينة على سطوح الواجهات وتعقيد ملمسها ، غايتها ومبتغاها ارباك وتشويش المقياس المختار والتقصّد في حضور ” التفكيك ” البصري للمبنى بشكل عام .ثمة ” تفكيك ” بصري آخر يمكن رصده في المعالجة التصميمة لقسم الطابق الارضي من واجهة المبنى . فقد تطلع المعمار لان تكون معالجات هذا الطابق ذات صلة ” بجدار برلين ” الفاصل يوما ما للعاصمة الالمانية . واذ يصطفي المعمار ارتفاعا مقداره 3.3 مترا لطابقه الارضي مماثلا لارتفاع الجدار المثير للجدل ، فانه سعى وراء ذلك الى ” حضور” رمزية الجدار ” المغيب ” ؛ الحضور- الذي تمثل ايضا بتناوب ايقاعي لاقسامه بين المصمت والمفتوح . والسؤال الذي ما برح قائما : هل ، ياترى ، استطاع المعمار ان يحقق مراميه من خلال استعارات رمزية لمعالجات محددة وظفها في مبناه ؟ ام ان تلك الافكار والتداعيات بقيت رهينة تصورات نصية ظلت محصورة في اطارها الادبي ، بعيدة عن امكانية تحقيقها ماديا او معماريا ؟ لكن كل ذلك لا يتعين ان يثير قلق المتلقين : مشاهدي البيت السكني الركني العاديين في ” فردريك شتراسه ” ؛ ذلك لان ” جارلس جينكز” – احد ابرز نقاد عمارة ما بعد الحداثة يطمأننا بانه … رغم اهمية السياقية ، والتذاكر ، وحضور الذكريات ، والذخائر في صميم العملية التصميمية لعمارة ما بعد الحداثة ( والتفكيكية ، بالطبع، من ضمنها ) ؛ ” فلا يهم البته فيما اذا ادرك الجمهور الاحساس بتلك العناصر .. من عدمها !!” . بتعبير آخر ، اذا لم يشعر المتلقي بتماثلات الرمزية في الطابق الارضي او اية تماثلات آخرى في واجهة المبنى ، فليس معنى ذلك ان عمارة المبنى خلوا ً منها . ثمة ، اذن ، قصور في الاتصال .. لكنه ، وفقا لجينكز ، قصور معرفي يشوب الخلفية الثقافية لذلك المتلقي . اما نحن ، فلا يسعنا الا التظاهر بان ثمة علاقة ما موجودة فعلا بين جدار الطابق الارضي في المبنى اياه وحضور .. ” اميج ” الجدار المختفي ؛ في الاقل حتى لا نكون ضمن اؤلئك الذين وصفهم ناقد ما بعد الحداثة الشهير، بانهم اناس تعوزهم الحيلة والدهاء .. ومَلـَكة الخيال لادراك منتج عمارة .. ما بعد الحداثة !!.
وايا يكن الامر فان ” بيتر ايزنمان ” لم يقصر اهتمامه ” التفكيكي ” على نماذج الممارسة التصميمية ، تلك النماذج التى اعتبرها كثر من النقاد المهتمين في عمارة ما بعد الحداثة بمنزلة احداثً ذات اهمية خاصة في المشهد المعماري ؛ وانما تعداها الى الجانب الاكاديمي ، حيث نشط ايزنمان ” المعلم ” والاستاذ الجامعي البارز في الترويج للتفكيكية عبر محاضراته ولقاءاته الدائمية في الوسط التعليمي، ومن خلال اصداراته الكتابية العديدة ايضا ، التى روجت لتلك المقاربة التصميمة التى تحظى الان على اعجاب وتعاطف كثر من المعماريين التواقيين لاثراء الخطاب المعماري العالمي وتنوع مصادره .
د. خالد السلطاني
معمار واكاديمي
مدرسة العمارة / الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون
اترك تعليقاً