د. مشاري النعيم
في العام 2008م بعد الأزمة المالية العالمية، توقعت أن تسقط بعض المدن الخليجية التي كانت تعتمد في حياتها على الوفرة الاقتصادية، وكانت المبررات التي اعتمدت عليها في حكمي آنذاك، هو أن محركات الحياة في هذه المدن تعتمد بالدرجة الأولى على وفرة الفرص وسهولتها، وأن الجاذبية العمرانية بالنسبة لكثير من سكان هذه المدن، وهم في الغالب من غير المواطنين، لا تسهم في بقائهم في مدن تتوفر فيها البنية التحتية والفوقية لكن لا يوجد فيها فرص عمل. تصوراتي آنذاك أن هذه المدن سيهجرها سكانها المهاجرون أصلاً وستتحول إلى مدن أشباح وستصبح ناطحات السحاب التي اكتظت بها هذه المدن فارغة. كل هذه التصورات قدمتها في ورقة علمية طلبها مني منتدى التنمية لدول الخليج، في نفس العام، وأذكر أنه كان في البحرين. ولكن ما حدث كان مفاجئاً، فلم تتأثر هذه المدن بالأزمة المالية إلا عرضاً ويبدو أن الظروف العالمية وارتفاع أسعار النفط بعد فترة وجيزة غيرت من المعادلة كلياً، وصمدت المدن التي كنت أعتقد أنها في آخر أيامها إلى يومنا هذا، بل توسعت وأصبحت مدناً كونية.
الأسئلة التي تبادرت إلى ذهني بعد أن رأيت أن ما توقعته لم يحدث كانت حول: ما الذي يؤدي إلى موت المدينة، وما الذي يساهم في حياتها؟ ما زلت أؤمن بأن العامل الاقتصادي حاسم في حياة وموت المدن، وأن المصادفة لعبت دوراً كبيراً في بقاء المدن الخليجية في مواجهة العاصفة الاقتصادية التي مرت عليها، وما زلت مؤمناً أن هذه المدن تشبه “مدن الملح” سرعان ما ستذوب مع أول موجة عاتية. لكن يبدو أن هناك عوامل أخرى تزيد من قدرة المدينة على المقاومة، وتساهم في بقائها وتعزز من قدرتها على مواجهة الأزمات. ويبدو أن هذه العوامل تتركز في بذور كامنة في بنيتها الإدارية والعمرانية، وهذه البذور تشكل بصورة أو بأخرى “ثقافة المدينة”، فمتى نطلق على مدينة ما أنها مدينة “مقاومة”؟ ما زلت أحاول أن أتبين هذه البذور وأحاول فهمها، لأنه من الصعوبة بمكان الركون على الوفرة الاقتصادية فقط كمبرر لبقاء المدينة.
عنوان المقال يستعيد كتاب الناقدة الأمريكية “جين جاكوب” الذي عنونته “موت وحياة المدن الأمريكية العظيمة”، فقد نشرت هذا الكتاب عام 1961م، وكان عبارة عن مقالات نقدية للسياسات العمرانية في الولايات المتحدة الأمريكية في الخمسينيات. فكرة الكتاب، عمرانية بالدرجة الأولى، فالكاتبة تعزو موت وحياة المدن للسياسات العمرانية وتندد بمشاريع التجديد الحضري الكبرى، فهي ضد بناء الطرق السريعة داخل المدن وكانت تنادي بحياة حضرية متعددة الاستخدامات وبسيطة، فهل هذه هي أسباب “موت أو حياة” المدينة؟ جائحة “كوفيد 19″، على سبيل المثال، عرت جزءًا من حقيقة المدن المعاصرة وكشفت الإعاقة العمرانية التي تعيشها هذه المدن، فكلما تكدس البشر في مكان واحد كلما تفاقمت أزمات المدينة، فمن جانب هذا التكدس يساهم في الحراك الاقتصادي، ومن جانب آخر يخلق الأزمات الاجتماعية والصحية والبيئية.
الجائحة، جعلت المهتمين بشؤون المدينة يفكرون في “المدينة المرنة” Resilient City وربما هذا المصطلح يتجاوز مفهوم المرونة إلى التكيف، ويرى الباحثون في هذا المجال أن حياة المدن في المستقبل مرتبطة بقدرتها على التكيف أمام الأزمات، فالمدن الخليجية التي نجت من أزمة 2008م المالية استطاعت التكيف واستطاعت المرور من عنق الزجاجة، حتى لو قدمت بعض التنازلات، وأزمة “كورونا” بينت كذلك، كيف أن بعض المدن لديها قابلية عالية للتكيف بينما هناك مدن أخرى اصطدمت بالأزمة بقوة. ومع ذلك فإن الأسئلة التي تدور في الذهن جميعها تتركز في كيفية خلق هذه القدرة على التكيف، لأنني أعتقد أنها قدرة تنمو من خلال الذكاء الإداري للمدينة والقرارات العمرانية المتراكمة التي تم اتخاذها بشكل مناسب وعلى فترات طويلة من تاريخ المدينة.
مجرد أن نتصور أن المدينة قد تموت، ربما لا يخطر على بال الكثير منا، لكن من دراستي لكثير من المدن السعودية، لاحظت أن هذه المدن هي نسخ جديدة من مدن ماتت وتلاشت كلياً أو جزئياً وما نراه اليوم هو مدن جديدة بنيت على أنقاض مدن انقرضت، فعلى سبيل المثال المدن القديمة لم يبقَ منها شيء حتى وإن بقيت بعض الأطلال هنا أو هناك لكن الذاكرة المكانية والمجتمعية تلاشت كلياً، لكن الغريب أن مدن الخمسينيات والستينيات وربما السبعينيات هي في طريقها للزوال، فليس بالضرورة أن تموت المدينة بشكل كامل لكن يكفي أن يموت جزء من ذاكرتها لتفقد حلقة الاتصال مع البذور التي خلقتها.
مقال للدكتور مشاري النعيم نُشر في جريدة الرياض في عددها الصادر يوم
اترك تعليقاً