التأثيل المعماري كأداة لتفكيك العمارة التقليدية والخروج بمفهوم صحيح للهوية المعمارية

بقلم: فرحات الطاشكندي

 

مقدمة:

كثُر الحديث في العقود الأخيرة عن “الهوية المعمارية”، وتنوعت الاجتهادات بين محاكاة زخرفية للتراث، أو استعارة رمزية للعناصر التقليدية، أو تمسك جامد بالأشكال دون فهم دوافعها. غير أن الطريق إلى فهم الهوية المعمارية لا يبدأ من الشكل، بل من الأصل. وهنا تبرز أداة التأثيل كوسيلة علمية لفهم “أصل العناصر”، وبالتالي إعادة تشكيل مفهوم الهوية المعمارية من الداخل لا من الواجهة.

 

ما هو التأثيل المعماري؟

التأثيل مشتق من “الأَثَل”، أي الجذر أو الأصل، وهو مصطلح لغوي يشير إلى تتبع الجذور الأولى للكلمات. أما في العمارة، فالتأثيل يعني تتبع أصل العنصر المعماري: متى نشأ؟ ولماذا نشأ؟ وما الحاجة البيئية أو الاجتماعية أو التقنية التي دعته للظهور؟

مثال: لا يكفي أن نُقلّد الشرفة أو المشربية في واجهات المباني لنكون قد عبّرنا عن الهوية؛ بل ينبغي أن نؤثّل: نفهم لماذا وُجدت، في أي مناخ، ولأي غرض، وهل ما زالت الحاجة قائمة؟

 

وظيفة التأثيل: تفكيك لا تقديس

يقوم التأثيل بوظيفة مزدوجة:

  1. تفكيك العمارة التقليدية: لا باعتبارها مقدسة، بل باعتبارها “حلولًا بيئية واجتماعية ذكية” ظهرت في زمانها.
  2. تحرير الهوية المعمارية من سجن الشكل: فالعناصر لا تُورث، بل تُفهم، وتُفعّل بما يناسب العصر.

التأثيل يرفض النقل السطحي، ويبحث عن المعنى خلف الشكل، وعن الوظيفة خلف الزخرفة.

 

نحو مفهوم أصيل للهوية المعمارية

من خلال التأثيل يمكن إعادة بناء مفهوم الهوية على أسس عقلانية، بعيدًا عن الانفعال العاطفي أو الاستنساخ الشكلي. فالهوية ليست في القباب والمقرنصات بحد ذاتها، بل في مبررات وجودها وسياق استخدامها.

 

 الهوية المعمارية الأصيلة هي نتيجة حوار بين الجذور والواقع، لا مجرد استعادة للماضي.

اذا التأثيل المعماري أداة معرفية ضرورية للباحث والمصمم والمخطط، تتيح لهم تجاوز القشور نحو الجوهر. إنه الخطوة الأولى لفهم التراث، لا لتقليده، بل لبناء عمارة معاصرة تمتلك جذورًا، دون أن تفقد قابليتها للحياة والتطور.

وفي ظل التحولات العمرانية المتسارعة، فإن اعتماد التأثيل كمنهج نقدي وتحليلي يمكن أن يُحدث فرقًا حقيقيًا في مسار إنتاج عمارة تُشبه الإنسان والمكان والزمان.

 

منهجية التأثيل كمدخل لتفكيك العمارة التقليدية واختبار صلاحيتها لهوية المستقبل

يُستخدم مصطلح “التأثيل” في هذا السياق بوصفه أداة تحليلية نقدية، لا مجرد إثبات نسب أو انتماء. 

فالغرض من التأثيل هو تفكيك العمارة التقليدية، لا لاستيراد رموزها كما هي، بل لتمحيصها وتحليلها ضمن شروط الحاضر واستحقاقات المستقبل، واختبار مدى قابليتها للتأصيل في عمارة الحداثة.

 

تعريف وظيفي للتأثيل

التأثيل: هو عملية تفكيك نقدي للعمارة التقليدية بغرض تحليل عناصرها الشكلية والوظيفية والثقافية،

واختبار قابليتها للتأصيل في عمارة الحداثة، بحيث لا يُستورد من الماضي إلا ما يمكن أن يخدم

احتياجات المستقبل ويتسق مع التقنيات والمواد المعاصرة.

 

لماذا التأثيل ضرورة؟

كثير من عناصر العمارة التقليدية:

– لا تصلح للبنية التحتية المعاصرة.

– أو كانت مرتبطة بسياقات اجتماعية أو مناخية تغيرت جذريًا.

– أو يتم توظيفها رمزيًا دون فهم وظيفي.

لذلك فإن التأثيل يعمل كأداة فلترة معرفية نقدية، لاختيار ما يمكن أن يُؤصل بوعي.

 

مثال تطبيقي: مشروع العُلياء

في مشروع العُلياء، بدلًا من استيراد عناصر معمارية من التراث الحجازي أو النجدي كما هي،

يقوم التأثيل بما يلي:

  1. دراسة الخلفيات التاريخية والوظيفية للعناصر.
  2. تحليل مدى ملاءمتها للسياق المعماري الحديث.
  3. إعادة توليفها ضمن رؤية عمرانية إنسانية ومعاصرة.

 

الفارق بين التأثيل والتأصيل

– التأثيل: تحليل نقدي لما يمكن أن يُؤصّل.

– التأصيل: ترسيخ ما ثبتت صلاحيته من العناصر التراثية داخل البنية المعمارية المعاصرة.

 

تحذير من الترسيس العكسي

عندما تُؤخذ عناصر تقليدية دون تأثيل، وتُؤصل دون مبرر، ثم تُرسّس بوصفها هوية وطنية، فإننا ننتج

ما يُسمى بالترسيس العكسي، أي تثبيت شكل تراثي دون مضمون حقيقي، وهو ما يؤدي إلى نماذج شكلانية

لا تعبر عن روح المكان ولا متطلبات الزمن.

 

 

تاريخ الاضافة : Sat 26 Jul 2025 عدد المشاهدات : 21 مشاهده

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أسئلة؟ دعنا نتحدث
دعم العملاء
تحتاج مساعدة؟ دردش معنا على الواتس اب