د. خالد السلطاني
إلى أكرم العكيلي
يعرف المعماريون مصطلح “اثاث الشارع” Street Furniture ، وهو مصطلح معني في توصيف مجموعة من تصاميم متنوعة المضامين والخامات والمقياس وتنطوي على فائدة نفعية مباشرة، مثلما يتمثل معناها الحسي أيضاً في قيم جمالية/ أستاطيقية Aesthetics محضة. ومفردات هذا الاثاث تتواجد عادة في فضاءات شوارع المدينة وازقتها وميادينها، وتصاميم هيئاتها تتجسد في اعمدة النور، واكشاك الهاتف والنوافير والتماثيل والنصب التذكارية ومقاعد الجلوس العامة، واشارات المرور، ومواقف النقل العام، وأمكنة المراحيض وسِلال النفايات الخ.. وبالنسبة الى المعمار: مصمم الفضاءات الخارجية Landscape تعد نماذج ذلك الاثاث بمنزلة ادوات اساسية يتعاطي بها لجهة اضفاء مسحة جمالية مشوقة الى مدينته التى يعمل فيها، ومنح فائدة قد تكون جدّ ضرورية لساكني تلك المدينة وضيوفها. ومصطلح “اثاث الشارع” في هذا المعنى، منتشر في انكلترة والولايات المتحدة واستراليا وكندا، في حين يدعي بالعربي (بالسعودية تحديداً) بـ “فرش الشارع”، اما في روسيا فيسمى بـ “الاشكال المعمارية الصغيرة” وله تسميات آخرى في مناطق مختلفة من العالم؛ الا ان مضمونه هو ذاته، فهو يرمي الى تحقيق تلك الاهداف بعينها، والتى تبتغي اضفاء مزيد من جمالية لفضاءات المدن، ومنح اكبر قدر من الخدمة النفعية لجميع المواطنيين الساكنيين وكذلك لضيوف مدنهم.
نافورة في ساحة “تورفالسين”، كوبنهاغن، النحات “يورن لارسين”، 2001، منظر عام
اثناء مروري المعتاد والمتكرر ما بين “المكتبة الملكية” في كوبنهاغن (حيث اقيم)، والتى امضي ايام محددة فيها اسبوعياً، وبين محطات وسائط النقل التى تنقلني لمكان سكناي ، امرّ على <نافورة>، عند ساحة فسيحة خالية ومنزوية، مبلطة بالحجر الغرانيتي، تقع امام مبنى متحف مجموعة النحات الدانمركي “بيذا تورفالسين” B. Thorvaldsen في وسط كوبنهاغن. وتبدو تلك النافورة في المكان وكأنها <لقية فنية> “ملقاة” بمحض الصدفة على قارعة الساحة، لناحية “فورمها” المميز وعناصرها التى اجتهد مصممها لتكون غاية في الاختزال، ولتزيد “سكينة” مضافة الى هدوء مفرداتها المختصرة ولطريقة عملها في مكان غاصه اجوائه بالصمت والسكون!
والساحة اياها، التى ظهرت فجأة، جنب مجمع مباني “كريستيانسبورغ”: المقر الملكي السابق (والذي تشغله الآن مكاتب رئاسة الوزراء، ومقر للبرلمان بالاضافة الى المحكمة العليا مع العديد من المباني النفعية واللوجستية التى تخدم مؤسسات الدانمرك المهمة)؛ كانت من تصميم المعمار الحداثي (وقتها) “ميكايل بينسبيل” M. Bindesbøll عندما صمم مبنى متحف “بيذا تورفالسين”، كما ذكرنا سنة 1848. كان من ضمن مقترح المعمار تصميم “بركة” دائرية بجانب مبنى المتحف، بيد ان مقترحه ” لم ير النور، وبقى رسما على ورق. ولكن في عام 2001 اعاد “توبين شونهير” Torben Schønherr معمار الفضاءات الخارجية الحياة الى مقترح “بركة” بينسبيل اثناء تجديد الساحة، مقترحا تصميم نافورة ذات شكل دائري وبقطر 16 مترا، وقد كلف الفنان التشكيلي والنحات “يورن لارسين” ( 1926 – 2004) Jørn Larsen بتصميم هيئة النافورة.
نافورة في ساحة “تورفالسين”، كوبنهاغن، النحات “يورن لارسين”، 2001، تفصيل
واود قبل الحديث عن تصميم النافورة، ان اتحدث، ولو بايجاز، عن مصممها، الذي ارتبط نتاجه واسمه بكونه احد الفنانين الدانمركيين المهمين وصاحب مقاربة تشكيلية خاصة، رغم انه لم ينتج نتاجا فنيا غزيراً. ولد “يورن لارسين” في مدينة “نيستفيذ”الواقعة جنوب العاصمة كوبنهاغن، وانتقل الى العاصمة ليدرس الفن في الاكاديمية الدانمركية للفنون سنة 1951، الا انه سرعان ما تركها بعد ان امضى فيها فصلا دراسيا واحدا. وخلال السنين اللاحقة تجول بكثرة في اوربا، مقيماً لسنين في فرنسا كما زار واقام في اسبانيا واليونان وتركيا. وفي عام 1955 ينظم اول معرض شخصي له بلوحات معظمها “غير تشخيصية” Non- figurative، وعرضها في “المعرض الخريفي” باكاديمية الفنون، المعرض المعروف جيدا في الدانمرك وفي عموم اوربا الفنية. خلال عامي 1959 و 1960 سكن “لارسن” في القسم الشرقي من جزيرة “غرينلاند” وقد الهمته الجزيرة ذات المناخ الصقيعي المتجمد، بانجاز سلسلة من اللوحات، بعد ان عاد الى وطنه. واعتبارا من 1962 يطور اسلوبه التشكيلي معتمدا على اللونين الابيض والاسود، كما انه يبدع بعض القطع النحتية مستخدما مواد متنوعة بضمنها الرخام والغرانيت والحديد. وفي 1970 ينضم الى مجموعة “الخضر” كعضو عامل. من اعماله المهمة قطعة نحتية بالحديد في جامعة روسكلا، وصمم ارضية المسرح الملكي الدانمركي، كما له عدة اعمال اخرى.
في عمله المميز نافورة ساحة “تورفالسين”، يدهش النحات “يورن لارسن” متلقي عمله لجهة النمط التشكيلي المختار Pattern المترع بالهندسية، والمعبأ في ميزتين نراهما اساسيتين هما: اختزال العناصر المصممة وفتنة التشكيل وجماليته. ثمة حوض دائري ملئ بالماء المتحرك الذي يدور على كل اقسام النافورة وفقا لمنظومة دفع وتصرّيف المياه الزائدة بصورة غير مرئية، ولكن ما يرى فيها (في النافورة)، شكل ذلك التصميم ذي الخطوط المتعرجة “الزكزاكية” Zigzag اضلاعه المشغولة بالخرسانة والمغلف بالرخام.
يعتمد الفنان على شبكة من الخطوط المتعرجة، قوامها ستة رسوم لاشرطة تنطلق عند “خط شروع” واحد، لكن نهاياتها تكون متباينة في الطول؛ اعلاها الشريط الاول المتاخم لمباني “كريستيانسبورغ” والبعيد عن الشارع المجاور للساحة، يليه في القصر الشريط الثاني ، ثم الثالث..وهكذا حتى نصل السادس وهو اقصرها: عبارة عن تقاطعات قليلة ليس غير. تترك (..وترسم) تلك الاشرطة المتوازية مجالات مائية فيما بينها، تكون مفتوحة في اعلاها ومغلقة عند خط الشروع، ما يمنح حركة الماء المنسابة بان تمر على “جميع” اجزاء النافورة، اعتمادا على نظام تناوب الفتح والغلق لتلك الاشرطة ومجالاتها البينية. وبهذا تضمن انسيابية جريان ماء النافورة وتدويره بشكل سلس ومنظم.
لا يلجأ الفنان في نافورته الى الاستخدام الشائع لاسلوب حزم تدفق المياه عمودياً. اذ انه معني كثيراً بخلق هدوء مُفرط يشي باكبر قدر من صفاء؛ صفاء جمالي، لا يعكره جَلبَة أو ضجيج؛ مانحاً المكان والساحة الفسيحة المرصوفة بقطع الحجر الغرانيتي، مزيداً من الصمت، المسكون به الفنان منذ ايام “غرينلاند” الجامدة. توحي المساحات الرحيبة لسطوح المياه التى خلقها الفنان في نافورته وكذلك عناصرها “النابتة” فيها، الى تكريس نوع من “عفوية”، بدت غير متصنعة تلف جميع عناصر تصميمه المجترح، وتكون مؤثرة في تحديد مواقع تلك العناصر في الوسط المائي الدائري. ويسعى الفنان وراء هذة “العفوية” التى خلقها، الى تعبئتها بحمولة فنية يستدعي بها التذكير بقيم الذائقة “الرعوية” Pastoral في معناها البرئ والبسيط، التى اشتغل الفنان طويلاً عليها، ووسمت مقاربته الفنية بطابع خاص، انها “العفوية” التى يتعذر مضاهاتها، مثلما لا يمكن تقليدها بسهولة، تماماً “كالسهل الممتنع!”. تتغير وتتبدل اشكال تقاطعات خطوط النمط التشكيلي الزكزاكي في النافورة، كلما تحركنا حولها في اتجاهات مختلفة، راسمة ومؤلفة تنويعات عديدة من اشكال تلك التقاطعات. وهذة “الحركة” التشكيلية المضمرة التى ابتدعها “لارسين”، تبدو هنا بمثابة اشارات رمزية يراد منها استحضار “السكون”؛ السكون الزاخر بالمعاني، الذي “تربي” عليه وولع به هذا الفنان الشمالي!
كلما أمرّ، بجانب تلك النافورة الغارقة في صمتها، و”المغروسة” في ارضية حجرية بدت لي قاسية وصارمة في آن، استذكر “ثقافة” الشمال وذائقة ناسه المولعين بالصمت، والإمساك عن الكلام الكثير، مع رغبة عارمة في التماهي مع الطبيعة: “طبيعتهم” الزاهدة وحتى.. الصارمة في غالب الاوقات. واذ اشاهد “اختزالات” الحل التصميمي في تلك النافورة، وتقشف عناصرها، وأحس بذلك الهدوء المغالي فيه الذي يلف “حركة” وانسيابية مائها الرقراق، اشعر بالرغبة، للاعراب عن تثميني الكثير لقدرة ولمقدرة الفنان ولعمله المبدع، وكذلك لزميله المعمار الذي افرد له ذلك الموقع المتفرد، لينشر “يورن لارسين” عبر نافورته المبهرة، اريج “ذائقة” الشمال المميزة ويستدعي عطر ثقافته الخاصة، المستحضرة في تشكيلات النافورة المختزلة التى آراها أمامي، وفي التضاد النابع من خشونة محيطها الغرانيتي المعتم، مع بساطة سطوح مائها المتلألئ!
________________________________
نُشر هذا المقال للدكتور خالد السلطاني، في جريدة إيلاف الالكترونية، بتاريخ 9 اكتوبر 2021 ،، للإطلاع على المقال من موقعه الاصلي، إضغط هنا ..
اترك تعليقاً