التخارج من المشروعات العامة

د. جمال عبدالجواد

 

تبنى الحكومة وثيقة ملكية الدولة، وطرحها للنقاش العام هو تطور شديد الأهمية، يعكس جدية الدولة فى تبنى طرائق جديدة فى التفكير فى شئون الاقتصاد المصرى، واتجاهها لتبنى إصلاحات عميقة.

اهتم الرأى العام بالوثيقة منذ نشرها فى يونيو الماضى، وتركز النقاش على ما جاء بالوثيقة من اتجاه الدولة للتخارج من شركات تملكها فى قطاعات اقتصادية مختارة، تعبيرا عن سعيها لتجنب مزاحمة القطاع الخاص، ورغبة منها فى فى فتح فرص الاستثمار أمامه. هناك مشكلة فى مدخل التخارج هذا، ليس لأنه من الافضل للاقتصاد الوطنى مواصلة الدولة التمسك بملكيتها فى القطاعات الاقتصادية المختلفة، ولكن لأن التخارج مسألة شديدة الصعوبة، فاليوم بعد ثلاثين عاما من إصدار قانون شركات قطاع الأعمال العام فى عام 1991، وبعد محاولات كثيرة لدمج شركات القطاع العام والتخارج منها، مازال فى حوزة الدولة أكثر من سبعين من شركات قطاع الأعمال العام، بما فى ذلك عدد كبير من الشركات الخاسرة والمدينة، التى أخفقت الدولة على مدى ثلاثين عاما فى التخارج منها، والتى تحمل الموازنة العامة فى كل يوم تبقى فيه فى حوزة الدولة أموالا كان يمكن توجيهها لتحسين التعليم والصحة والبحث العلمى والبيئة.الصواب والخطأ فى هذه القضية شديد الوضوح، ومع هذا فإن الحكومات المتعاقبة مازالت تكافح من أجل حل هذه المشكلة، لأن صعوبات التخارج كثيرة، ولأن المستفيدين من بقاء الوضع الراهن لديهم مهارة فائقة فى الدفاع عن مصالحهم.

التخارج من الشركات العامة عملية شديدة البطء بسبب العقبات الفنية والإدارية التى تعترضه، وبسبب مقاومة جماعات المصالح المستفيدة من بقاء الوضع على ما هو عليه. ومع هذا فإنه يجب عدم التوقف عن البحث عن أساليب فعالة لتخارج الحكومة من الشركات العامة، خاصة الخاسرة منها. لكن الأهم من ذلك هو التأنى الشديد عند إضافة المزيد من الشركات لمحفظة ممتلكات الدولة، وبدلا من أن يجهد القائمون على كتابة وثيقة ملكية الدولة أنفسهم فى اختيار القطاعات التى ستبقى فيها الدولة أو تنسحب منها، فإن الأفضل هو وضع ضوابط موضوعية صارمة تقيد إضافة المزيد من المشروعات لمحفظة الشركات العامة.

الأصل فى الاستثمار هو رأس المال الخاص، المعروف بسمتين متناقضتين، هما المغامرة والجبن. فى المصطلحات الفنية يطلقون على رأس المال الخاص “رأس المال المخاطر”، أى رأس المال المستعد للمخاطرة بالدخول إلى مجالات استثمارية جديدة قد تربح أو تنتهى بخسارة يتحمل نتيجتها من أمواله. رأس المال الخاص أيضا معروف بالجبن، لذا نجده يهرب من الأسواق عالية المخاطر أو التى يزيد فيها عدم اليقين.

رأس المال الخاص مغامر جبان، لا يدخل فى مشروع جديد إلا بعد دراسة متأنية، وهذه هى الميزة الكبرى التى تميزه عن استثمارات القطاع العام، التى تشترك مع رأس المال الخاص فى قبول المخاطرة، لكنها تختلف عنه فى اتسامها بشجاعة كبيرة لا نجدها فى القطاع الخاص. السبب فى هذا هو أنه بينما يتحمل صاحب رأس المال الخاص الخسائر الناتجة عن أى مغامرة فاشلة يتورط فيها، فإن الموظف المسئول عن توجيه الاستثمارات العامة لا يخسر الشيء الكثير لو حدث واتخذ قرارات استثمارية غير موفقة.

للمشروعات العامة دورة حياة مراوغة. فى البداية تكون هناك فكرة جذابة. عندما تلوح فرصة كهذه لمستثمر من القطاع الخاص فإنه يتأنى قبل الدخول لأنه ما أن يضع قدمه إلا ويبدأ فى إنفاق الأموال، ويظل قلقا يترقب ما إذا كانت حساباته دقيقة، وأن الأموال التى ينفقها ستعود عليه بالربح فى النهاية.

الأمر يختلف بالنسبة للاستثمارات الحكومية، فالقرارات تصدر عن موظف عام لا يدفع شيئا من ماله الخاص، ولا تمثل عملية تنفيذ المشروع بالنسبة له مرحلة إنفاق صافى، بالعكس فإن ما يتقاضاه من مكافآت قد يزيد بسبب المجهود الإضافى المبذول فى تنفيذ المشروع، والذى قد يستغرق تنفيذه بعض الوقت قبل اكتمال المشروع، والتأكد ما إذا كان سيحقق النجاح الموعود.

عند هذه النقطة قد يكون الموظف الذى اتخذ قرار الاستثمار انتقل إلى وظيفة أخرى أو وصل إلى سن التقاعد، وحل محله آخرون يفضلون بدء مشروعات جديدة تأتى ومعها مكافآتها. لكل هذا يجب إخضاع قرارات الاستثمار العام لقيود وضوابط إضافية أكثر من تلك التى يخضع لها الاستثمار الخاص، وذلك من أجل ترويض الشجاعة الزائدة التى قد يتم بها اتخاذ قرارات استثمارية قد تكون خاطئة، يتحمل الاقتصاد كله تكلفتها.

يمكن لوثيقة ملكية الدولة الإسهام فى تحقيق هذا الهدف عن طريق تبنى مجموعة من المعايير والإجراءات واجبة الاتباع فى كل مرة تسعى فيها أى جهة من جهات الدولة لإضافة مشروع جديد لقائمة ممتلكات الدولة. بعبارة أخرى فإنه بدلا من التركيز على تخارج الدولة من مشروعات مملوكة لها، ينتقل التركيز إلى تقييد دخولها فى ملكيات جديدة. وفقا لهذا التصور فإنه يكون مطلوبا من كل مشروع جديد تبدؤه أى جهة من جهات الدولة استيفاء معايير دقيقة تبرر تخصيص المال العام لهذا المشروع، بحيث تتركز الاستثمارات العامة فى مجالات يجبن القطاع الخاص عن دخولها، بسبب تقدمها التكنولوجى، أو ضخامة رأس المال المطلوب لها، أو أهميتها القصوى للأمن القومى، وبحيث تكمل استثمارات القطاع العام تلك التى يقوم بها القطاع الخاص لا أن تنافسها.

 

 

مقال للدكتور جمال عبدالجواد عن التخارج من المشروعات العامة، نُشر في جريدة الاهرام في عددها الصادر يوم الخميس 19 من صفر 1444 هــ 15 سبتمبر 2022 السنة 147 العدد 49591

مصدر المقال:  https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/870133.aspx

 

 

تاريخ الاضافة : Fri 16 Sep 2022 عدد المشاهدات : 405 مشاهده

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*

code

أسئلة؟ دعنا نتحدث
دعم العملاء
تحتاج مساعدة؟ دردش معنا على الواتس اب