مع ان تنفيذ مبنى “خان مرجان” (760 هـ / 1358 م.)، تم بعد قرن بالتمام، منذ “سقوط” بغداد بايدي الغزاة المغول (1258 م.)، لكن استمرارية الابداع المعماري البغدادي ونَـفـَسه وروحه، ظلت حاضرةً في فكر وممارسة كثر من البناة الاذكياء والحرفين الماهرين، هم الذين استطاعوا بكفاءة ان يعوا جيدا قيمة واهمية موروث ما تم انجازه سابقا في مدينتهم البهية المتخطية لكل انواع ضروب الحصارات والخراب والتدمير، ومزج هذة الثروة المعمارية والمعرفية مع كل ما انتج في ثقافات اخرى. إذ ادت بغداد كحاضرة اسلامية عظيمة دورها الطليعي كمكان تترسخ به تلك الافكار المعمارية ويتم تلاقُحها وتبادلها مع افكار اخرى في مدن اخرى ومن ثقافات اخرى، لجهة توليد رؤى معمارية جديدة، قادرة على تعزيز وتأسيس مقاربات تصميمية مبتكرة. ولعل مثال عمارة مبنى “خان مرجان” البغدادي، كفيل في ايضاح هذا المسعى وتبيان مخرجاته الايجابية. فنحن ازاء محاولة تصميمية مميزة وفريدة من نوعها، تنزع لتكون من ضمن اهم محاولات معمارييّ ذلك الزمن البعيد في تكريس سعيهم وراء معنى التوظيف الخلاق للممارسة المعمارية السابقة، والارتقاء بها مطعمة بذائقة وخبر معمارية آخرى ولتكون ناتجها نموذجا مبتكراً في توليد مثل هذة الممارسة الابداعية.
وخان مرجان، الذي نتحدث عنه، هو ذاته “خان الاورتمة” او “التيم”، وتعني <اورتمة> المسقوف او المغطي بالتركية، في حين تدلل كلمة <تيم> الى معنى الخان بالفارسية، وعموما فان الخان او “الوكالة” او “الكرفان سراي” هو مكان خاص انتجته العمارة الاسلامية من ضمن تنويعاتها Types البنائية، ليقوم مقام الفندق او النزل، وهو يوجد في العادة بالمناطق الحضرية مثلما يتواجد ايضا خارجها. ووظيفة الخان الاساسية هو ايواء الناس (التجار في الغالب الاعم) ورجال القوافل وبضاعتهم. وثمة امكنة (عادة في الخانات التى تقع خارج المناطق الحضرية) مخصصة لايواء الحيوانات الناقلة للبضائع. وغالباً، ثمة اهتمام معماري وعناية تزيينية تُسّبغ على تصاميم وتنفيذ تلك المنشاءات. وتمتلك العمارة الاسلامية نماذج مبنية للخانات تعد من خيرة ما انتج من شواهد معمارية على نطاق المنتج المعماري الانساني، لناحية جمالية حلولها التزينية وتنوع خامات زخرفتها والاهم اتقان لغتها المعمارية ومهارة حلولها التكوينية. واذكر باني شخصيا تعنيت، في زيارتي الاخيرة “لبلاد ما وراء النهر”، (عندما كنت مشغولا في اعداد كتابي عن تلك العمارة المبهرة)، تعنيت ان ازور خان “رباط الملك” (1079) الواقع في عمق البادية ما بين سمرقند وبخاري، وذلك للوقوف ميدانيا امام براعة حلوله التصميمية وفرادة لغته المعمارية، المعروف بهما على نطاق واسع لدى مهتمي العمارة الاسلامية، وتأثير تلك الحلول وخصوصية تلك اللغة على نهج كثر من المعماريين المعاصرين بضمنهم معمارنا الراحل “محمد مكية” (1914 -2015) في تحفته المعمارية “مبنى مصرف الرافدين” في الكوفة (1968)، التى تحدثت عن عمارتها مرارا وفي مناسبات عديدة، لكن ذلك..قصة آخرى! فقصتنا الرئيسية هي عمارة “خان مرجان” البغدادي.
ارتبط اسم “الخان” باسم الخواجة (مرجان). لا يُعرف الكثير عن مآثر هذا الخواجة، سوى انه “طواشياً” اي رئيس خدم البلاط، او “آغا الحرم”. وهو رومي الاصل، ولقب بـ (أمين الدين بن عبد الله بن عبد الرحمن الجايتي) نسبة الى السلطان (اولجايتو محمد خدابنده): أحد سلاطين المغول وكان مرجان هذا من مماليكه، كما يخبرنا بذلك “شريف يوسف” في كتابه <تاريخ فن العمارة العراقية في مختلف العصور” بغداد، 1982). لكن اسم الخواجة “مرجان” حُفظ تاريخيا عن طريق العمارة، اذ ارتبط اسمه بمبنى هذا “الخان المسقف” المميز الذي شيد في 1358 م. في الموقع الذي يطل حاليا على شارع السموأل ببغداد؛ كما ارتبط اسمه ايضا باسم مدرسة حملت اسمه وشيدت قبل الخان بسنتين اثنتين، وليست بعيدة عن موقع الخان بالجهة الاخرى من شارع الرشيد والتى تسمى الان “جامع مرجان”. وكانت لغة عمارتها هي الآخرى، من الاحداث اللافته ضمن منتج العمارة ابان تلك الفترة.
لكن (مرجان) يُذكـر ايضاً، بكونه احد الشخوص المتهورة في سرديات التاريخ العراقي، اذ افضى طموحه المغالى به حد الحماقة الى مصير خائب. فعند سفر السلطان “اويس” (وهو سلطان من الفترة الجلائرية التى حكمت بغداد، وكان من الشخصيات المحببة لدى البغداديين، اذ كان شابا جميلا، تمتع بثقافة رصينة وذوق جمالي عال. بالاضافة الى ذلك كان نقاشاً ماهراً ومبدعا في الخط والموسيقى وله نصيب في الشعر والادب، ولهذا فتن البغداديون به، وكانوا يخرجون خصيصا لمشاهدته والنظر لمحياه الجميل وهو ممتطٍ صهوة حصانه، كما تصف ذلك المصادر التاريخية). فعندما سافر ذلك السلطان الى تبريز لاخماد الفتن فيها “ولىّ الخواجه مرجان على بغداد من بعده، فانتهز هذا الفرصة وحاول ان يستقل ببغداد، وأعلن حكومته، فرجع السلطان الى بغداد وحاصرها. فانحاز غالبية مؤيدي الخواجة الى معسكر السلطان، وبقى هو وحيدا، يطلب رحمة السلطان ولطفه ورأفته” (المصدر السابق، ص. 516 – 517). ومع هذا، فان العمارة استطاعت حفظ اسمه وترسيخه بالمشهد، وظل الخان مع المدرسة يتسميان باسمه لحين الوقت الحاضر، على عكس ما حصل لـ “اويس” المهذب صاحب السلطان وحاكم بغداد الشاب ذي الطلّة الجميلة، الذي لفه النسيان، هو الذي يظهر اسمه فقط لدى المهتمين وعند مؤرخي تلك الفترة!
ينطوي مخطط خان مرجان على سمات خاصة اكسبته في الاخير فرادته. كما انه يبقى احد الخانات النادرة التى لم يتضمن مخططه فناءً وسطيا مكشوفا، كما هو الحال لدى تصاميم غالبية الخانات الآخرى. ومخططه العام عبارة عن بهو مركزي مسقف بابعاد 11.40 × 30.25 مترا، وهذا البهو خلواً تماما من اي عنصر انشائي لاتاحة اكبر مساحة ممكنة للتجار لعرض بضاعتهم التى تتركز اساساً بالمتاجرة بمنتجات حريرية وصوفية غالية. تطل على هذا البهو الداخلي 22 غرفة في الطابق الارضي، و23 غرفة اخرى في الطابق الاول. وجميع ابواب غرف الطابق العلوي تفتح على ممر/ شرفة او طنف من جهاته الاربع وعلى ارتفاع 6 امتار. وتبرز الشرفة عن الجدران بواسطة مقرنصات آجرية، تشكل حوامل متسلسلة تظهر من الجدران بصورة تدريجية بمقدار متر واحد. يتم تسقبف قاعة البهو بواسطة عقود مدببة يبلغ عددها ثمانية عقود بعرض يصل الى 2.15 متر لكل عقد، الذي يعرف بـ “الدور” عند الاسطوات العراقيين، كما يذكر ذلك “شريف يوسف” (في ذات الكتاب الذي اتينا على ذكره). وهذة العقود العريضة نوعا ما مشيدة بصورة متوازية الواحد للآخر، لكنها تترك بينهما فراغا موحداً مقاسه 1.90 متر؛ عدا المسافة الوسطية حيث يكون عرضها 3.20 متر. ويصل ارتفاع هذة العقود في اعلى نقطه منها بحوالي 14 متراً. ثمة مدخلان اساسيان للخان، احدهما الرئيسي يقع شمال المبنى في اتجاه مجموعة الاسواق التي كانت تمثل سوق الثلاثاء التاريخي.والآخر يفتح جنوبا على شارع السموأل حاليا. وهناك كتابات باسطر عديدة فوق الباب الرئيسية تشير الى سنة تنفيذه، واسم مقترح بانيه والقابه جميعا، فضلا على ذكر مجموعة من الاملاك التى اعتبرت وقفا لهذا الخان، واخيرا اسم مدون تلك الكلمات وخطاطها. واستطاع مصطفى جواد ان يسجل جميع تلك الكلمات (مع الكلمات الاخرى الموجودة في اعلى المدخل الآخر)، وينشرها في الصحف البغدادية واعاد نشرها لاحقاً في كتابه مع احمد سوسه “دليل خارطة بغداد المفصل”. كما تضمن مبنى الخان غرف اضافية توجد في الجانب الشمالي من المبنى وتحيط بالمدخل الرئيس، وهي على الارجح مخصصة لادارة الخان وتسهيل عمله.
يبدو “خان مرجان” من الخارج كمبنٍ عادي، خلواً من اية مظاهر زخرفية، عدا تلك الكلمات الانسيابية المنحوتة بالآجر في اعلى المدخلين. ثمة جدار أصم يُشكل واجهة المبنى محفور في سطحه المستوي البسيط فتحات باشكال مختلفة، كناية عن نوافذ الغرف العديدة التى يتألف منها الخان في الطابقين الارضي والاول. وبهذة المعالجة المتقشفة يطمح معمار الخان الى تكرار التقليد الشائع الملازم للعمارة الاسلامية والتأكيد بكونها عمارة “داخل” وليست “خارج”. فالخارج غالبا من وجهة العمارة الاسلامية هو الفضاء القاسي والصارم وحتى العدائي (بالمفهوم البيئي) ولهذا لا يوجد اكتراث به كثيرا؛ في حين يظل الداخل الحيز الاليف والممتع والانيس. واذ كان من ثمة ضرورة لجهد تصميمي عال وتزييني مبتكر فمكان ذلك هو “الداخل”: الاحياز الداخلية طبعا، من خلال ابتكار تفاصيل شيقة، والقدرة في اختيار الالوان وتحديد امكنتها، وتشغيل منظومة التناسب لاحراز اعلى انسجام وتوافق بين عناصر وحجوم المبنى، والكفاءة في استخدام الخامات المتنوعة، والاهم الموهبة في توظيف خصوصية النظام التركيبي لتكون عناصره الانشائية ادوات تسهم في خلق جمالية المبنى وإظهار قيمته الاستطيقية Aesthetics. وهذا، في اعتقادنا، ما صبا اليه معمار الخان وحققه بكل اجتهاد واتقان.
في مسعاه المثابر بجعل القوام الانشائي يعمل جماليا، يحرص معمار الخان لتشغيل ما يعرف بـ “التكتونك” Tectonic المعماري لجهة الوصول والحصول على نتائج مثمرة. وهو اذ يستثمر خاصية ومزايا العقد المدبب (العقد الذي ابتكرته العمارة الاسلامية)، يعرف جيدا طريقة توزيع “الاحمال” ومسارها ونقلها عبر عناصر هذا العقد الى الاسس الارضية. علينا ايضا الاشارة، بان المكان البغدادي الذي يعمل معمار الخان في كنفه وتحت ظلال إرثه الانشائي المرموق، شهد طفرة في اتقان المنظومات التركيبية وجودتها نظراً لاتساع مؤهلات الحرفيين وزيادة خبرتهم. من هنا يمكن ادراك براعة وحذق الحل الانشائي للخان، والتوق في توظيف ذلك الحل في سبيل إحراز قيم جمالية. فعندما يبتغي المعمار تقبية مبناه لا يلجأ الى القبو المستعرض المستمر لتحقيق مرماه، وانما يعمل على تجزئة ذلك القبو وتقسيمه الى ثمان عقود مدببة: مستعرضة ومنفصلة، واضعاً اياها بمسافة محددة الواحد بمُوَازَاة الآخر. وبما ان الفراغ الناجم عن ترتيب وضعية العقود، سيفضي حتما الى انتاج أنارة سقفية وهي، بالطبع، غير مرغوبة وليست ملائمة لظروف بغداد البيئية الحارة والمسرفة بنور اضائتها، مما حدا به اللجوء لقرار تغطيتها باقبية مستعرضة مستندة جزئياً على سطح تلك العقود Extrados. وبهذ المعالجات التصميمية، استطاع المعمار في النتيجة الى تقبية فراغات المسافات المتروكة، وان يغير من اتجاه فتحات النوافذ التى انجزها في تلك الاقبية، الى الجهة المناسبة بيئياً وهي شمال – جنوب. ولاجل تفادي حضور رتابة منتظرة جراء تماثل ايقاع الفتحات المسقفة بالاقبية، آثر المصمم ان تكون سعة الفراغ الوسطي مختلفة عن ابعاد مجاوراته، مانحاً أهمية خاصة لهذا المحور الذي يربط المدخلين. جدير بالذكر، ان المعمار في معالجاته التصميمية اللافتة للاقبية المستعرضة والمحصورة ما بين العقود المدببة الثمان؛ وبهدف تجنب زيادة حمولة الاثقال على جدران مبناه، استطاع عبر سلسلة من القرارات التصميمية والانشائية، ان يمضي باتجاه الاستعانة بما يعرف “بالجدران الحاملة لذاتها” Non-load Bearing Walls، التى يسرت، وبمهارة، انجاز تلك التقبية.
وفي النتيجة فان اجراءات تعقيد التسقيف التى اوجدها المعمار، سواء في السطوح المستوية ام في نحتية حجوم الكتل الخارجية التى تشاهد في اعلى المبنى، قابله، وبالتضاد منه، بساطة ونُعومة الحيز الداخلي للبهو الرئيس، فضاءه الذي استطاع المعمار ان يجترحه بفخامة واضحة متأتية من ارتفاعه المزدوج Double Volume النادر في مثل هذة الابنية. على ان خصوصية فضاء البهو المبتدع وما يشي به من حمولة دلالية تبقى تذكر توق المعمار ونزوعه المثابر في استدعاء واحد من اكثر سمات العمارة الاسلامية تفردا وتميزا، ونقصد بها وهم “تهشيم” العناصر الانشاية، بغية خلق حالة معنية في سيادة “الفضاء” وسيطرته على “مادية” تلك العناصر، موهمة في اتساع الفضاء المحصور واكسابه خفة ورشاقة عاليتين. ويتاتى ذلك من جملة قرارات اصطفاها المعمار بحذق وبراعة. ولعل مسعاه في “تفريق” العقود الحاملة للتسقيف واسلوب الانارة التى اوجدها في فضاء البهو الموحية “بقضم” سماكة المنحنايات السفلية للعقود Intrados، وتوظيف انواع اشرطة الزخرفة الاجرية الملتصقة بالجدران، كانت من بين قرارات تعمل على تكريس “وهم التهشيم” والتركيز على حضور الفضاء وسيطرته في حيز البهو المجترح. واخيراً، نحن ازاء بهو يتسم فضاءه، وان بدا محصوراَ، لكنه مترع باحساس الاتساع الحيزي وخفة العناصر التركيبية، ما جعله ليكون مثالا واضحا في مهام الاضافات التصميمية المبهرة، التى وفرتها العمارة الاسلامية واضافتها لذخيرة منتج العمارة العالمية. في هذا السياق، نجد ان ما توصل اليه مورخ العمارة الاسلامية وأحد مختصيها البارزين الانكليزي “روبرت هيلنبراند” Robert Hillenbrand، من أن مجرد رؤية تقبية الخان واسلوب تسقيفه، “..فان العين الاوربية، على الارجح، تستحضر في رؤيتها لتلك القناطر Vaults مزاج الطراز القوطي Gothic Style ونًفـًسه” ويضيف تالياً، من ان “.. كثرا من الحجج التى قدمت يوما ما لذلك الحوار الذي جرى في الثلاثينات، التى تزعم بوجود علاقة ما بين العمارة الاسلامية.. والطراز القوطي، والتى لم تحسم وقتها، فان مثال “خان مرجان” سيكون، هذة المرة من دون شك، نموذجا موفقا في اثراء هذا النقاش وتعزيز حججه، فيما اذا اِسْتَأْنَفَ من جديد؛ ومرد ذلك اسلوب عمل العقود المستعرضة الرائعة المشكلة لاقبية تسقيف الخان..). (Islamic Architecture, 2000, p. 362- 365).
وختاماً لئن عوّلت طرز ومقاربات معمارية عديدة في مناطق جغرافية واثنية مختلفة على اهمية الدروس المستخلصة من نماذج حلول العمارة الاسلامية، بضمنها بالطبع عمارة “خان مرجان”، فما هذا الا دليل اضافي لقيمة وأهمية ما تم انجازه في ذلك المبنى البغدادي الانيق ذي البهو المترف!
اترك تعليقاً