سلبيات الإدارة التفصيلية

مخاطر خفية شرسة تهدد المؤسسات

 

صفوق الشمري

رغم ما قد يبدو في ظاهرها من حرص على ضبط الجودة وتحقيق الدقة، تُعد الإدارة التفصيلية من أكثر أساليب القيادة ضررًا على بيئات العمل. Micromanagement فهي تقوم على المراقبة المستمرة، والتدخل في أدق التفاصيل، وغياب التفويض الفعّال، مما يؤدي إلى إضعاف روح المبادرة، وتقييد الإبداع، وتدهور الأداء العام للمؤسسة. وقد أظهرت بيانات حديثة من عام 2024 صادرة عن مؤسسات بحثية مرموقة، أن هذا النمط الإداري ينعكس سلبًا على مستويات الابتكار، ورضا الموظفين، والإنتاجية، ومعنويات الفرق، وحتى التكاليف التشغيلية.

أظهرت دراسة صادرة عن «هارفارد» عام 2024 أن الإدارة التفصيلية تتسبب في انخفاض الابتكار بنسبة تتراوح بين 25 إلى 35 %، حيث شملت الدراسة 1500 موظف من 50 جهة عمل، وأثبتت أن المراقبة الزائدة تحد من قدرة الأفراد على اقتراح أفكار جديدة أو اتخاذ قرارات جريئة. وأكد تقرير مهم في نفس الاتجاه، مشيرًا إلى أن الفرق التي تعمل تحت قيادة متحكمة تسجل انخفاضًا بنسبة %30 في ناتجها الابتكاري، وذلك استنادًا إلى بيانات من 200 شركة حول العالم. وأوضحت دراسة أجرتها مؤسسة «غالوب» عام 2024 أن الإدارة التفصيلية تخفّض رضا العاملين بنسبة تتراوح بين 20 إلى %25. كما أظهرت أن الفرق التي تتبع هذا الأسلوب سجلت معدلات مشاركة أقل بنسبة %22 مقارنة بالفرق التي تحظى بقيادة مرنة ومستقلة. وربطت الدراسة ذاتها هذا الأسلوب الإداري بانخفاض الرضا الوظيفي بنسبة %15 نتيجة شعور الموظفين بانعدام التقدير وغياب الإحساس بملكية العمل.

كما أظهرت تحليلات عام 2024 شملت 300 شركة، أن الإدارة التفصيلية تؤدي إلى تراجع في إنتاجية الفرق بنسبة تتراوح بين 10 إلى %15. فالمتابعة الدقيقة وغير الضرورية من قبل المدراء تؤدي إلى تعطيل سير العمل، وزيادة التوتر، وإهدار الوقت والجهد. ووفق تقرير آخر، فإن الفرق التي تتعرض لهذا النوع من الإدارة سجلت انخفاضًا بنسبة %12 في معدلات إنجاز المهام، نتيجة التأخيرات الناجمة عن الحاجة المستمرة للموافقات والتوجيهات. كما أشارت دراسة عن الاستقالات ومغادرة الوظائف لعام 2024 إلى أن العاملين تحت الإدارة التفصيلية ترتفع لديهم احتمالات مغادرة العمل بنسبة %28 خلال أول ستة أشهر، ما يرفع معدل الدوران العام بنسبة تتراوح بين 20 إلى 30 %. وأيضا أظهر تقرير «جمعية إدارة الموارد البشرية» أن المؤسسات التي تعتمد على هذا الأسلوب تخسر أفضل المواهب بمعدل أعلى بنسبة 25% مقارنةً بالمؤسسات التي تعتمد على نماذج قيادة تمكينية قائمة على الثقة والتفويض. إنما على صعيد المعنويات والتفاعل فقد بيّنت دراسة أجرتها «هارفارد» أيضا على 100 شركة متوسطة الحجم أن المعنويات داخل الفرق التي تخضع للإدارة التفصيلية تنخفض بنسبة تتراوح بين 15 إلى %20، نتيجة ضعف الثقة وكثرة التدقيق، مما يؤدي إلى عزوف الأفراد عن التفاعل والمشاركة. وأضاف تقرير آخر أن التعاون داخل الفرق ينخفض بنسبة %18 عند وجود قيادة متسلطة، حيث يسود الخوف من التقييم المستمر والنقد الحاد، مما يثني الأفراد عن التعبير عن أفكارهم.

لا تتوقف آثار الإدارة التفصيلية عند حدود الأداء البشري، بل تمتد إلى الكفاءة المالية والتنظيمية. فقد أشارت بيانات منشورة إلى أن هذا النمط من القيادة يؤدي إلى زيادة في التكاليف التشغيلية بنسبة تتراوح بين 10 إلى %12 بسبب الاجتماعات المتكررة غير المجدية، وتكرار تنفيذ المهام نتيجة تضارب التعليمات. ووفق تقدير صادر عن «فوربس»، فإن هذا الأسلوب الإداري يُكلف الشركات في الولايات المتحدة وحدها ما يقارب 450 مليار دولار سنويًا نتيجة انخفاض الإنتاجية وتكاليف تعويض الموظفين المنسحبين.

لدي قناعة شخصية راسخة بأن من أهم سمات القائد الحقيقي قدرته على تفويض المهام بفعالية. فالتفويض ليس مجرد توزيع للأعمال، بل هو مهارة قيادية دقيقة تميز القائد عن غيره، لأنها تتطلب موازنة دقيقة بين الثقة والمتابعة، يحتاج معادلة دقيقة (وزنية) تميز القائد عن غيره! فالقائد الفعّال يفوّض، لكنه يبقى على اطلاع، لا يتدخل في كل تفصيل، ولا يغيب تمامًا عن المشهد. من واقع تجربة لسنوات، وجدت أن التفويض أحد أهم الأدوات التي تمكِّن القائد من إنجاز مشاريع كبرى والعمل على أكثر من مسار في آنٍ واحد، كما أن له أثرًا كبيرًا في مضاعفة الإنتاجية. إلا أن التفويض الناجح يستند إلى عدة عناصر جوهرية: منها حسن اختيار الشخص المناسب، بحيث تتناسب المهمة مع قدراته ومهاراته. وأيضًا، توفير المتابعة الذكية عن بُعد بما يضمن التوافق مع استراتيجية المؤسسة الكبرى. كما يجب تمكين الموظف من الوصول إليك عند الحاجة، ولكن دون أن يتحول إلى الاعتماد الكامل على القائد في كل جزئية، وإلا انتفى مفهوم التفويض الحقيقي.

التدخل يكون ضروريًا فقط عند ملاحظة انحراف في المسار، وقد يأخذ شكل المشورة، أو التعديل المباشر، أو حتى إعادة التفويض إلى طرف آخر إن اقتضى الأمر. عمليًا، لم أجد وسيلة أنجح من التفويض في صقل الموظفين، وتنمية قدراتهم، وزيادة ثقتهم بأنفسهم. وخلال تجربتي عبر سنوات طويلة وفي بيئات عمل متعددة، كنت محظوظًا بفرق عمل مجتهدة ومتميزة، وقد حققت ما يقارب 90 % من المهام التي فوضتها نجاحًا، بل إن بعضها تجاوز التوقعات. وفي حالات محدودة فقط، اضطررت للتدخل لإعادة التوجيه.

أكرر هنا: التفويض لا يعني الغياب، بل الحضور الذكي، كما قال الرئيس رونالد ريغان: «ثق، ولكن تحقق». وبناء عليه وما تشير إليه هذه البيانات أعلاه فأن الإدارة التفصيلية ليست مجرد خلل إداري، بل تمثل عائقًا هيكليًا أمام تقدم المؤسسات واستدامة فرق العمل. فهي تقتل روح الإبداع، وتضعف الولاء، وتستنزف الموارد المالية والبشرية. ومن هنا تبرز الحاجة إلى التحول نحو نماذج قيادة تمكينية مبنية على الثقة، والتفويض، وبناء ثقافة المسؤولية الجماعية. 

إن الاستثمار في تدريب القيادات وتبني هياكل تنظيمية مرنة بات ضرورة، لا خيارًا، لضمان ازدهار المؤسسات في بيئة عمل معاصرة تتطلب سرعة الاستجابة، وتعظيم القيمة، والاستفادة القصوى من طاقات العنصر البشري. اعتماد الهياكل التنظيمية المسطّحة يمكن أن يعزز الإنتاجية بنسبة تتراوح بين 15 إلى %20، بحسب التقارير وعليه، فإن تعزيز الاستقلالية داخل الفرق يُعد محفزًا جوهريًا للابتكار.

الاتساق الإستراتيجي: تشير بعض التحليلات إلى أن مواءمة الفرق مع الأهداف طويلة الأمد تؤدي إلى زيادة في الابتكار بنسبة تتراوح بين 30 إلى %40. ومن المهم تحقيق توازن بين مؤشرات الأداء الكمية والأهداف النوعية.

 

مقال للكاتب صفوق الشمري، نُشر في جريدة الوطن السعودية بتاريخ الخميس 29 مايو 2025  – 02 ذو الحجة 1446 هـ.

 

للإطلاع على المقال من موقع الجريدة، اضغط هنا ..

 

 

تاريخ الاضافة : Fri 30 May 2025 عدد المشاهدات : 76 مشاهده

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*

code

أسئلة؟ دعنا نتحدث
دعم العملاء
تحتاج مساعدة؟ دردش معنا على الواتس اب