تأخير سداد المستخلصات .. يسحق القطاع الخاص

فهد بن عبدالله القاسم

 

تتفكك دولة عند فقدان الأمن ، بينما تسقط دولة أخرى بسبب رغيف خبز ، في أمريكا وهي قبلة العالم الرأسمالي يُنتخب رئيس ببرنامج انتخابي يركز على الرفاهية ولقمة العيش والتخفيف من الضرائب ، ويسقط رئيس مُنتخب بسبب ازدياد طوابير العاطلين .. الحقيقة الثابتة أن الإقتصاد قد يكون أكبر سبب لرضا الشعب ، فيما قد يكون أيضاً أبرز أسباب سخطه .

بدأت الحكومة إجراءات مشددة لشد الأحزمة ، كردة فعل على إنخفاض حاد متوقع للإيرادات نتيجة إنخفاض أسعار النفط إلى ما يزيد عن النصف ، تزامن ذلك مع الإنفاق العسكري على جهود إستعادة الشرعية في الجارة الغالية “اليمن” .

أذكر إنني كتبت مقالاً قبل ما يزيد عن 5 سنوات نشر في صحيفة الإقتصادية بعنوان “ يوسف العبقرية الإقتصادية .. دروس مستفادة” ، وكان المقال يتمحور حول الإدخار الحكومي ، والدورات الإقتصادية ، والتحذير من الطفرة ، وأنها مؤقتة مثل رواج أي سوق أو سلعة .

مبدأ شد الأحزمة في النفقات ، بعد مرور سنوات من الصرف اللامحدود والذي يصل إلى حد البذخ الزائد عن الحد ، هذا الترشيد للإنفاق بدأ بإعلان قرار تحويل الإعتماد لأي مشاريع تزيد عن 100 مليون إلى مجلس الإقتصاد والتنمية ، وكان قراراً متميزاً لمعالجة “قلة الدبرة” في الكثير من المؤسسات الحكومية ، تبع هذا القرار عدة قرارات وتعاميم لإيقاف بدء المشاريع التي لم تبدأ بعد ، وكان قراراً في محله لإن التصرفات وقت الرخاء من الطبيعي أن تختلف عن مثيلاتها في وقت الشدة .

هذه القرارات تتخذ ، في نفس الوقت الذي نعرف أن إحتياطات المملكة المالية (وليس البترولية) القابلة للتسييل خارج المملكة يمكنها تغطية عجز الموازنة لمدة 10 سنوات فيما لو استمر سعر برميل النفط يباع عند 50 دولار . ولم يكن ذلك ليغير من قناعات المجتمع والمختصين بإن الذكاء في التعامل مع الأزمة قبل حدوثها والإستعداد لها بالشكل المطلوب ، وهذه من دروس قصة يوسف .

ومع تسليمنا بما ذكرناه أعلاه ، إلا أن الإشكال الذي بدأ يظهر على السطح ، وبدأت الوزارات تطبقه على أرض الواقع هو إيقاف مستحقات الجهات المتعاملة معها ، حتى أجل غير مسمى !!! وقد حدثني أكثر من شخص ثقات عن تجاربهم المباشرة مع مؤسسات حكومية تقر بإستلام أعمالهم وإعتماد مستخلصاتهم ولكنها توقف صرفها ، بل حتى أن بعض هذه المستحقات تم تحرير شيكات بها إستعداداً لتسليمها لهم !!! والحجة أن ذلك تم بناء على توجيهات عليا !!

الاقتصاد السعودي -للأسف- اقتصاد ريعي يعتمد على أداء الحكومة ، وأحد المحركات الاقتصادية الكبرى ، والعجلة الرئيسية له هي الإنفاق الحكومي ، جزء كبير من هذا الإنفاق يتم عن طريق المشاريع ، وهذه المشاريع تصب لمصلحة القطاع الخاص الذي تصب منه في مختلف ، هذا القطاع مطلوب منه التصدي لمشكلة البطالة ، والدعم لتخفيض غلاء المعيشة والتضخم ، والمساندة في بناء السكن ، والمساهمة في العلاج والتعليم .. الخ .

إيقاف مستحقات القطاع الخاص ، بالشكل الذي يتم حالياً ، ستؤدي بالتالي إلى كارثة اقتصادية وإنهيار في قطاعات متعددة تعمل مع المؤسسات الحكومية ، وأي متخصص مبتديء يعلم أن الجهات التي ستضرر ليست الجهات المتعاقدة مع الحكومة مباشرة فقط ، بل جميع القطاعات المرتبطة بها .

فشركة المقاولات التي تتأخر مستحقاتها من الدولة ، ستؤخر هي مستحقات مقاولي الباطن ، ووالتي بالتالي ستؤخر مستحقات المكاتب الإستشارية المتعقدة معها ، كما أنها ستؤخر مستحقات الموردين للمواد المستخدمة في المشاريع ، وتلك ستؤخر مستحقات الشركات الموردة للمواد الخام ، كما أن الكثير منها ستضطر إلى تأخير دفعات القروض المستحقة عليها من قبل البنوك الممولة ، كما أنها ستؤخر الرواتب ، وبالتالي الموظفين سيؤخرون أقساط المدارس ، وقد يضطر الكثير منهم الى التمويل الشخصي لسد إحتياجاته ، وغالياً ستضطر الكثير من هذه المؤسسات إلى إنهاء خدمات بعض موظفيها ، وبالتالي ستزيد دائرة التأثير المجتمعية .. الخ . وهكذا فهي دائرة تبدأ ولا تنتهي ، وكرة ثلج لن تتوقف إلا بتدمير شامل لهذه الشركات والأسر ، وسيزداد التأثير السلبي لإيقاف وتأخير المستحقات بزيادة مدة التأخير .

واقع القطاع الخاص في مثل هذه الأزمة يؤصل مفهوم الأمن الوظيفي في العمل الحكومي ، والتهرب من القطاع الخاص ، والبحث عن وظيفة حكومية ولو بربع راتب !! والطريقة التي تتعامل بها الحكومة مع القطاع الخاص لا تدعم منطق مكافحة البطالة ودعم السعودة ، فضلاً عن مقومات إنجاح برنامج توليد الوظائف الذي سيولد خديجاً في هذه الأجواء الملبدة بالمخاوف والمخاطر وتذبذب المواقف ، والتوجهات ، ناهيك عن النتيجة المتوقعة جراء تأخير المستحقات والتي سنشهدها على صعيد مؤسسات القطاع الخاص وسيكون أحد ضحاياها الموظفين السعوديين الذين سيتم الإستغناء عنهم بشكل مباشر أو غير مباشر .

أنا لا أطالب هنا بإستمرار تدفق المشاريع ، واعتماد المهم وغير المهم ، ولكني أطالب بسداد المستحقات المعتمدة لمستحقيها بدون تأخير ، بل وأرى أن الحكومة مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بتسريع السداد حتى قبل الإستحقاق ، وذلك لدفع عجلة الأنشطة في شرايين وأوردة القطاعات الاقتصادية المنتجة محلياً ، ولتغيير مزاج التشاؤم السائد ، والذي ساهم في بث روح الإنهزامية في أي استثمار محلي .

أخيراً .. حتى لا يقع جاهل أو متعجل في المحذور ، أو في إتهام يفسد عليه شيء من دينه ودنياه ؛ فليس لدي من كتابة هذا المقال أي مصلحة أو فائدة ، فلله الحمد والمنه ليس لدي ريال واحد في أي مؤسسة حكومية أو شبه حكومية ، فلست أنتظر مستخلص يوقع ولا مِنة مسئول ولا دعم مُتنفذ ..

 

فهد بن عبدالله القاسم 

تم نشر هذا المقال في جريدة مال الالكترونية بتاريخ 29 نوفمبر 2015 على الرابط التالي:   http://www.maaal.com/archives/86667

[email protected]

Tweeter: @falkassim

 

تاريخ الاضافة : Wed 3 Nov 2021 عدد المشاهدات : 803 مشاهده

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*

code

أسئلة؟ دعنا نتحدث
دعم العملاء
تحتاج مساعدة؟ دردش معنا على الواتس اب