د. فيصل بن الفديع الشريف
يعتبر الاجتماع في بيئات العمل الحديثة أكثر من مجرّد موعد على التقويم؛ فهو قناة لتبادل المعرفة واتخاذ القرار وبناء الروابط داخل فرق العمل، لكنه في الوقت نفسه قد يتحول إلى مستهلكٍ شرِهٍ للوقت والموارد ما لم يُحسن تخطيطه وتُحكم إدارته. توضح بعض البيانات المتوفرة لعام 2024 أنّ الموظفين المكتبيين يقضون 14.8 ساعة أسبوعياً في الاجتماعات (أي اكثر من 30 ٪ من وقت العمل اليومي). ويُنظر للاجتماعات على انها أداة ضرورية ووسيلة فعالة لتسيير الاعمال واتخاذ القرارات التي لا تعتمد على توجيه القائد فقط، ولكنها تعتمد أيضا على تبادل الآراء واستخلاص المعرفة والعصف الذهني والتفاوض والتحاور البناء. ومع توسع نماذج العمل عن بُعد، اصبح تنظيم الاجتماعات لمناقشة موضوع محدد أكثر سهولة مهما تباعد حضوره جغرافيا. كما تعتبر الاجتماعات أسلوب تعليم غير رسمي يمنح الموظفين الأقل خبرة فرصة مشاهدة أساليب التفاوض وحل الخلافات على ارض الواقع من خبراء متمرسين، وهو نموذج تعليم لا توفره الوثائق ولا الرسائل الالكترونية.
الاجتماعات يمكن ان تكون عائقا للإنجاز وطريقة فعالة لهدر الوقت وضعف الإنتاجية اذا كانت ادارتها غير مُحكمة. ففي دراسات منشورة، وُجد ان نصف الموظفين يرون ان 50% من اجتماعاتهم مكلفة وغير منتجة، وان 72% من أوقات الاجتماعات لا تحقق الغرض منها فعليا. كما افاد 90% من العاملين عن تراجع تركيزهم ودافعيتهم بعد الخروج من اجتماع سيء، وان 28% من الاجتماعات تترك اثارا سلبية تستمر لساعات. كما اظهر مسح لشركة ميكروسوفت لعام 2024 ان 68% من الموظفين يرون ان الاجتماعات هي العائق الأول امام الإنتاجية، وان نحو ثلث الاجتماعات لا ضرورة له أصلا. وفي دراسة نشرها معهد MIT خصصت ل 76 شركة طبقت نظام “أيام بلا اجتماع” نتج عنها تقليص الاجتماعات بنسبة 40% (يومين عمل من خمسة)، وارتفعت الإنتاجية بنسبة 71% بالإضافة الى انخفاض الضغط النفسي على العاملين. وفي عام 2025 تبين من تحليل بيانات 40 الف موظف أن العاملين عن بُعد يسجلون 51 دقيقة إنتاجية إضافية يوميا مقارنة بزملائهم اللذين يعملون من المكاتب، وهو فارق يُعزى في جانب كبير منه الى فعالية التواصل وخفض زمن الاجتماعات.
ومع أهمية الاجتماعات كأداة عمل فعالة، ومع معرفة تأثيراتها السلبية اذا لم تتم ادارتها بإحترافية وحزم، يبرز السؤال: كيف لنا ان نجعل اجتماعاتنا فعالة؟ وقد تعود الإجابة الى نمط الإدارة الذي نتبعه هل هو منظم ام عشوائي، ومدى انعكاس ذلك حتى على الاجتماعات. وقد يحتاج الاجتماع في إدارته الى بعض الأنشطة والمهام التي يجب عملها قبل واثناء وبعد عقد الاجتماع (تخطيط وتجهيز، إدارة وتوثيق، متابعة وتدقيق). وقد قامت بعض الشركات بتطبيق بعض الخطوات التي قللت من اعداد الاجتماعات واختصرت من اوقاتها وجعلت ما يُعقد منها ذو فعالية، منها الاستغناء بالكتابة والتوثيق واعتماد المذكرات التفصيلية بدلا من الاجتماعات ذات الطابع الشفهي حتى وان تم توثيق نتائجها بشكل مختصر في العادة. ومنها أيضا تغيير ثقافة المنظمة والعاملين فيها الى جعل الاجتماعات فقط عند الضرورة، واختصار عدد الحضور كما فعلت شركة امازون في ما يسمى “بقاعدة البيتزا الواحدة” التي تشير الى ان الاجتماع الذي يتخطى عدد حضوره من يكفيهم قرصين من البيتزا (أي من 8-10 في الغالب) يفقد تركيزه. وقد بدأت بعض الشركات في تدريب القادة على الكتابة الواضحة الدقيقة كبديل للاجتماعات، وكذلك في عقد الاجتماعات وقوفا لمناقشة موضوع محدد ومعين ومن بعده ينفض الحضور، وكذلك طريقة توضيح تكلفة الاجتماع وكيف تزيد مع الزمن الذي يستغرقه الاجتماع في مكان بارز.
مقال منشور في جريدة “إشراقة” التي تصدرها كليات الشرق العربي، العدد 71 الصادر في الاول من ذو الحجة 1446هـ الموافق 28 مايو 2025.
للإطلاع على كامل عدد الجريدة رقم 71، إضغط هنا ..
الله يعطيك العافية دكتورنا الكريم على موضوع الاجتماعات والطرح الواقعي.
أعجبني التوازن في عرض مزايا الاجتماعات وتحدياتها.
من واقع التجربة أرى أن الاجتماعات حين تُدار بشكل احترافي ليست فقط وسيلة لاتخاذ القرار، بل أيضًا قناة فعالة لنقل المعرفة وتبادل الخبرات، خصوصًا للموظفين الجدد أو الأقل خبرة. فبعض الاجتماعات تتحول إلى فرصة تعليمية حيّة، يخرج منها الحاضرون بقيمة مضافة حقيقية، ليس من أجندة الاجتماع فقط، بل من أسلوب النقاش وطريقة التفكير وتقديم المعلومات.
ومع ذلك تبقى جودة الاجتماع مرهونة كثيرًا بمن يُديره. فهناك من يحوّل الاجتماع إلى متعة معرفية وتجربة ذهنية محفزة، تُحترم فيها أوقات الجميع وتُخرج بنتائج ملموسة. وهناك من يُكرر الاجتماعات بلا هدف واضح، لتصبح عبئًا روتينيًا لا يضيف جديدًا، بل يهدر وقت الفريق ويؤثر على الحافز العام.
لذلك أؤمن بأن تطوير ثقافة الاجتماعات داخل المؤسسات وتدريب القادة على إدارتها بفعالية، هو أحد مفاتيح رفع الإنتاجية وتعزيز بيئة العمل.